أقلام وأراء

الأحد 25 يونيو 2023 9:36 صباحًا - بتوقيت القدس

الديموغرافيا السياسية للفلسطينيين "جدلية الداخل والخارج"

وصل  عدد الفلسطينيين في العالم الى اكثر من 14 مليون نسمة، يعيش نصفهم تقريبا في فلسطين التاريخية، والنصف الآخر في "الشتات" في بعض البلدان العربية والعالم. عند حدوث النكبة في العام 1948، كان عدد الفلسطينيين في وطنهم يقترب من المليون (950 الفا)، بقي منهم في الاراضي التي قامت عليها "اسرائيل" حوالي 150 الفا والباقي (800 الف) توزع بين من بقي في ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وغزة)، واولئك الذين تشتتوا في كثير من بلدان العالم، خاصة البلدان العربية المجاورة لفلسطين.


من الطبيعي أن ينعكس هذا التشتت الديموغرافي للفلسطينيين على اوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى مصالحهم المباشرة، وكذلك على علاقتهم بالقضية الوطنية الفلسطينية وطريقة تحركهم تجاهها.


وعندما نشأت الثورة الفلسطينية المعاصرة ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، كان من الطبيعي أن يكون فلسطينيو الخارج، خاصة اللاجئون في مخيمات الشتات، هم مادتها واحتياطها الديموغرافي. لذلك السبب، اضافة الى موضوع القرب من فلسطين، لم يكن غريبا ان يكون مقر القيادة الفلسطينية بعد حرب حزيران 1967 في الاردن، حيث النسبة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، ثم في لبنان في أعقاب احداث ايلول 1970.


اعطى وجود القيادة الفلسطينية بين جماهيرها، وعلى حدود فلسطين في عمان، ثم في بيروت، قدرا من حرية الحركة، وهو ما سمي "القرار الفلسطيني المستقل"، الذي حرصت تلك القيادة على اظهار تمسكها به طيلة الوقت. من البديهي أن استقلالية القرار، وهو القرار الذي يصب، او ينبغي ان يصب باتجاه الهدف الأساس، المتمثل في حينه في تمثيل الشعب الفلسطيني، الذي ادعى تمثيله - بحسن نية او بسوئها لا يهم - كثيرون، وفي استعادة الحقوق الفلسطينية المغتصبة المتمثلة بالتحرير والعودة.


تتطلب حرية الحركة للقيادة، واستقلالية قرارها، امتلاكها الحد الأقصى من أوراق القوة، التي تمكنها من التحرر من عوامل الضغط عليها سواء من قبل الأعداء او من قبل الأصدقاء والأشقاء. من البديهي ان سلامة القرارات، مرتبطة بالحرية والاستقلالية التي اتخذت في اطارها.


كان وجود القيادة الفلسطينية في الاردن حتى عام 1970، بين جماهيرها وقريبة من هدفها، طبيعيا، من حيث كونه المكان الذي يحقق لها اقصى عوامل قوتها التي تضمن حرية حركتها واستقلالية قرارها. وعندما انتقلت الى لبنان لم يتغير الوضع كثيرا، فلقد استمرت كذلك في التواجد بين جزء آخر من جماهيرها وقريبة من هدفها، واضيف الى ذلك تحالفها مع حركة وطنية لبنانية قوية مناصرة لها.


في الاردن، كما في لبنان، لم تطرح العلاقة بين الداخل والخارج الفلسطيني بشكل ملح، إنما ظهر بشكل عابر بين الفينة والأخرى من حيث مدى اهتمام القيادة "في الخارج" بساحة الأرض المحتلة سياسيا واجتماعيا. كذلك لم يطرح موضوع مكان وجود القيادة، كون الطبيعي أن يكون ذلك مع الشعب وقريبا من فلسطين.


لكن اشكالية المكان لدى القيادة، وعلاقة الداخل والخارج، اخذت بالبروز بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1982، وخروج القيادة الى تونس. فسواء كان ممر تونس لقيادة منظمة التحرير اختياريا أم اجباريا، فإن ذلك خلق مشكلة حقيقية، اذ نزعت قيادة المنظمة من بين جماهيرها، واصبحت بعيدة عن حدود فلسطين، مما اضعفها بشكل كبير، وعقد دورها كثيرا.


واحد من أهم مبررات اتفاقيات اوسلو لدى المؤيدين لها هو "اكراهات" المكان. فتونس، رغم "احتضانها" لقيادة منظمة التحرير ومن ذهب معها من الفلسطينيين، لم تكن المكان الأنسب لتواجدها، فضعفت كثيرا واصبحت اكثر حساسية، وربما "ذعرا"، فيما يخص موضوع "القيادة البديلة"، وامتد ذلك "التحسس" ليشمل ليس فقط اعداءها أو منافسيها، بل طال حتى اعضاءها ومؤيديها. هذا ما جعل القيادة "ترتاح" لاوسلو حيث هي الموجودة مباشرة، اكثر من "ارتياحها" لمدريد وواشنطن حيث "وكلاؤها" من الداخل.


ادركت قيادة منظمة التحرير بعد خروجها من لبنان، اهمية وضرورة تواجدها السياسي والمؤسساتي في الداخل الفلسطيني، بعد أن كانت لا ترى وزنا الا لتواجدها النضالي هناك. في تلك الفترة فقط، بدأ الاهتمام بالنقابات ومجالس الطلبة والمؤسسات الأخرى، منافسة بذلك ليس فقط اعداءها، بل وانصارها في الحركة الوطنية الفلسطينية، مما القى بشيء من "اللبس" بين سلوكها كقيادة لكل الشعب الفلسطيني، وككيان "معنوي" للفلسطينيين، وبين كونها قائدة لواحدة من الحركات الفلسطينية، تنافس الآخرين، مهما بلغت تلك الحركة من اهمية.


لقد شكل اهتمام القيادة الفلسطينية بساحة الداخل، أحد المتطلبات الأساسية الممهدة لعودتها الى الوطن، ذلك الذي حصل بعد توقيع اوسلو. لكن ذلك الاهتمام بالداخل، انتج، أو هكذا بدا، قلة اهتمام "بالخارج"، تكرست بعد تشكل السلطة الفلسطينية في الداخل، وما فرضته الاتفاقيات من تحديد "لولاية" السلطة على سكان الداخل (الضفة وغزة) من الفلسطينيين فقط، اضافة الى "الترهل" الذي اصاب المنظمة إثر ذلك.

مكان القيادة واستقلالية القرار
كل قيادة لشعب، خاصة اذا كان في مرحلة التحرر الوطني، يفترض أن تسعى لامتلاك كافة أوراق القوة، كي تستطيع تحقيق الحد الأقصى من اهدافها بأقل الخسائر. أهم أوراق القوة لحركة التحرر الوطني، هي علاقتها الجيدة مع شعبها، الذي يفترض أن يحتضنها ويحميها، ويفترض ان تقوده بإخلاص وبحكمة وبمثابرة لتحقيق الأهداف.


ينطبق هذا الوضع على القيادة الفلسطينية، ولكن بخصوصية اكبر، حيث يتوزع الشعب بين الوطن وخارجه مناصفة (تقريبا)، وتختلف ظروف كل فئة من الفلسطينيين تبعا للبلد الذي توجد فيه، مما يتطلب جهدا اضافيا لمتابعة علاقة القيادة مع شعبها، لإيجاد الحد الأقصى من التناغم بينهما، وكذلك لخصوصية القضية الفلسطينية نفسها، بما لها من تعقيدات، وطبيعة عدوها، الحركة الصهيونية العالمية، بما يعنيه ذلك من تشابك مع الامبريالية، وامتداد عبر العالم، وقدرة "استثنائية" على التدمير وارتكاب المجازر.


بدلت اوسلو المعادلة التي تحكم العلاقة بين القيادة الفلسطينية واماكن وجود شعبها، فبعد ان كانت القيادة الموجودة في الخارج أقل اهتماما "بمواطنيها" الموجودين على ارض فلسطين، اصبحت بعد وجودها في الداخل أقل اهتماما "بمواطنيها" في الخارج، وبحقوقهم، اضافة الى تخليها الكامل الرسمي والمعلن والمتفق عليه عن "مواطنيها" في اراضي 1948.


لقد غيرت اوسلو منطق الاشياء، فبدل ان يعطي انتقال القيادة الفلسطينية الى الداخل الفلسطيني بين شعبها قوة اضافية، ويجعل قرارها اكثر استقلالية، جلب لها مزيدا من الضعف، وجعل قرارها اكثر ارتهانا لإرادة اسرائيل، لدرجة ان "استقلالية القرار الفلسطيني" بدت وكأنها تخص العلاقة مع الدول العربية، أما فيما يخص العلاقة باسرائيل فهو موضوع خارج السياق.


يبدو أن القيادة الفلسطينية بعد اوسلو قد خفضت، إن لم تكن قد تجاهلت تماما، موضوع ارتباط قوتها او ضعفها بعلاقتها مع شعبها، اذ أن العلاقة باسرائيل، اضافة الى العلاقة بالمجتمع الدولي، أخذت تحتل الجزء الأكبر من عوامل قوة القيادة أو ضعفها. احتمال آخر، ان يكون مفهوما القوة والضعف لم يعودا بالمعنى الذي تعودنا ان نفهمه، فأصبح الضعف هو مصدر القوة، وأصبح المزيد من الارتهان هو المطلوب من أجل ضمان الاستمرارية.


من المهم عند دراسة علاقة المكان باستقلالية القرار الفلسطيني، ملاحظة أن مكان القيادة فرضته "الهزيمة" وليس بالضرورة الثقل الاستراتيجي لذلك المكان. فإن كان الوجود بداية في الاردن قد حددته الاستراتيجيا، فإن الانتقال إلى لبنان حددته "الهزيمة" في الاردن وبعض الاستراتيجيا، وعند الذهاب إلى تونس تلاشت الاستراتيجيا وكانت الهزيمة في لبنان وحدها هي المقرر، ثم كانت "العودة" الى الوطن إثر اوسلو ذروة الهزيمة أو تتويجا لها.


غالبا ما يكون سياق الحدث أهم من الحدث نفسه. هذا ينطبق على عودة بعض الفلسطينيين الى وطنهم بعد اوسلو. هذه "العودة" التي جاءت في سياق اوسلو تختلف كليا عن العودة التي كان ينبغي أن يكون التحرير متطلبها الأساس.


هذا يتطلب النظر الى اهمية مكان وجود القيادة، وكذلك الى القيادة نفسها، ضمن السياق الذي وصلت فيه، كي نخرج بتقييم علمي حول وضع القيادة ودورها والخيارات التي تختارها.


ربما يفسر هذا كيف أن حديث الفلسطينيين عن قرارهم المستقل، كان يتم بوضوح أثناء وجود القيادة في الأردن ولبنان، وأخذ في التناقص في تونس، وتوقف كليا في فلسطين. فالقيادة الفلسطينية بعد اوسلو هي "اسيرة" لدى أعداء فلسطين بكل ما في الكلمة من معنى، والجيد أن القيادة تعترف بذلك علنا ولا تنفيه.

القيادة الفلسطينية وفلسطينيو الخارج
دعونا نعتقد أن الفلسطينيين تعاملوا مع اوسلو "بحسن نية"، فآمنوا أنه بعد التوقيع على تلك الاتفاقية، وأيا كانت الالتزامات والارتباطات والقيود التي التزمت القيادة الفلسطينية والزمت نفسها بها، فإن الأمر سيستغرق خمس سنوات، وبعدها تنشأ الدولة الفلسطينية المستقلة، فتسقط تلك الالتزامات والقيود تلقائيا، ويمارس الفلسطينيون قيادة وشعبا حياتهم الطبيعية.


لكن مضت الخمس سنوات ولم يتحقق ذلك، ومضت عشرون سنة، وثبت أن الأمور تسير باتجاه آخر، وأن ما اعتقده "الفلسطينيون" طريقا للتحرر، لم يكن الا طريقا لمزيد من التبعية والارتهان. في مثل هذا الوضع الذي اغلقت فيه كل آفاق "تسوية" مقبولة، من الطبيعي أن يعود الفلسطينيون مجددا الى التفكير في كيفية الحصول على حقوقهم، وأن تعود القيادة الفلسطينية، للبحث في الطرق التي تعطيها مجالا أوسع لحرية الحركة، والتخلص من الوضع الذي وجدت نفسها فيه، أو على الأقل، تحسين شروط وجودها في هذا الوضع، ذلك الذي يتطلب بالتأكيد، اعادة الاعتبار للعلاقات الطبيعية بين القيادة وشعبها، آخذة بالاعتبار "اكراهات" المكان عليها وعلى شعبها. هذا يعتبر بالنسبة للقيادة شرطا لاستعادة أهم أوراق قوتها.


هذا يتطلب من القيادة سلوكا مختلفا تجاه شعبها في الداخل والخارج. واذا كان الشعب في الداخل يحتاج الى "الحكم الرشيد"، فإنه في الخارج يحتاج الى الثقة به، وافساح المجال أمام ابداعاته وعدم وضع العصي في دواليبه.


في حالة الشعب الفلسطيني الذي يعيش اكثر من نصفه في الخارج، ذلك النصف الذي استثنته أوسلو التي وصلت لنهايتها المأساوية، وحيث النصف الآخر في الداخل، مع قيادته، محكوم اكثر بشروط الاحتلال، فإن الاستمرار في تهميش الخارج، الذي تشكل حقوقه -العودة- جوهر القضية الفلسطينية، يعتبر تخل للقيادة عن جزء هام من ذخرها الاستراتيجي، ويعني تعميق شروط ارتهانها للاحتلال.


انها حالة فلسطينية "سريالية"، يشكك فيها "السجين" بكل محاولة تجري - أو ستجري - لتحريره، أو حتى لتحسين شروط سجنه... هل يا ترى يدرك خطورة ما يفعل، أم أنه "سعيد" بالوضع الذي هو فيه؟.

دلالات

شارك برأيك

الديموغرافيا السياسية للفلسطينيين "جدلية الداخل والخارج"

المزيد في أقلام وأراء

من الاخر ...ماذا وراء الرصيف العائم في غزة ؟!

د.أحمد رفيق عوض.. رئيس مركز الدراسات المستقبلية جامعة القدس

لم ينته المشوار والقرار بيد السنوار

حديث القدس

الانعكاسات السيكولوجية للحد من حرية الحركة والتنقل

غسان عبد الله

مفاوضات صفقة التبادل إلى أين؟

عقل صلاح

الحرب مستمرة ومرشحة للتصاعد على جبهتي الشمال والضفة

راسم عبيدات

السعودية وولي العهد الشاب: ما بين الرؤية والثوابت

د. دلال صائب عريقات

ملامح ما بعد العدوان... سيناريوهات وتحديات

بقلم: ثروت زيد الكيلاني

نتانياهو يجهض الصفقة

حديث القدس

هل الحراك في الجامعات الأمريكية معاد للسامية؟

رمزي عودة

حجر الرحى في قبضة المقاومة الفلسطينية

عصري فياض

طوفان الجامعات الأمريكية وتشظي دور الجامعات العربية

فتحي أحمد

السردية الاسرائيلية ومظلوميتها المصطنعة

محمد رفيق ابو عليا

التضليل والمرونة في عمليات المواجهة

حمادة فراعنة

المسيحيون باقون رغم التحديات .. وكل عام والجميع بخير

ابراهيم دعيبس

الشيخ الشهيد يوسف سلامة إمام أولى القبلتين وثالث الحرمين

أحمد يوسف

نعم ( ولكن) !!!!

حديث القدس

أسرار الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلات التي صنعها الإنسان أن تتجاوز معرفة صانعها؟

صدقي أبو ضهير

من بوابة رفح الى بوابة كولومبيا.. لا هنود حمر ولا زريبة غنم

حمدي فراج

تفاعلات المجتمع الإسرائيلي دون المستوى

حمادة فراعنة

أميركا إذ تقف عارية أمام المرآة

أسامة أبو ارشيد

أسعار العملات

الإثنين 06 مايو 2024 10:33 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.74

شراء 3.72

دينار / شيكل

بيع 5.28

شراء 5.22

يورو / شيكل

بيع 4.03

شراء 3.99

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%74

%21

%5

(مجموع المصوتين 218)

القدس حالة الطقس