أقلام وأراء
الخميس 30 مارس 2023 12:53 مساءً - بتوقيت القدس
التعـليم الحـــــــواري
يؤمن رائد الفكر التربوي البرازيلي باولو فريري (1921 – 1997) بأن المجتمعات المضطهدة أينما وجدت في هذا العالم؛ إنما هي حبيسة لثقافة صمت تجعلهم أناسا معدومي القوة وسلبيي الاتجاه، ليغدو غير قادرين على تغيير واقعهم، منقسمين حسب الواقع الاجتماعي إلى فئة قاهرة وفئة مقهورة.
وقد تناول فريري ذلك فعلا في كتابه تعليم المقهورين، وهو الكتاب الذي يعده تربويون كثر سببا لنهضة التعليم في أوروبا وأنحاء واسعة من العالم، حيث قدم فيه نظريته الجديدة (التعليم الحواري) القائمة على استكشاف الأفراد لواقعهم الموضوعي من خلال الوعي الإنساني والحرية بدلا من التعليم البنكي (التلقيني) القائم على القهر، إذ تمثلت لديه مشكلة رئيسة كامنة في الإجابة عن السؤال الآتي: كيف يستطيع المقهورون الذين لا يشعرون بوجودهم أن يسهموا في تطوير أسلوب تعليمي يستهدف تحريرهم؟
هذا العمق في تفكير باولو فريري التربوي التحرري على المستوى العالمي كان له تأثير عميق على التعليم كذراع للتنمية في المجتمع، باعتبار التعليم ينمي ويصنع العقول والأدمغة المنتجة بالتركيز على تنمية التفكير النقدي لدى المتعلمين والمعلمين عبر ترسيخ أسس التربية الحوارية في مختلف الموضوعات؛ ما عكس ذاته إيجابا على إضفاء طابع إنساني على عملية التدريس.
أثرت التنشئة الاجتماعية على الفكر الحواري لدى باولو فريري، حيث عاش ظروفا اجتماعية ومعيشية وتعليمية صعبة؛ وعايش كيف كان حصول الفقراء في البرازيل على تعليم شبه مستحيل؛ جرّاء الظروف الاجتماعية التي يعيشونها، والناتجة عن القيادة الأوتوقراطية التي كانت تحكم البلاد، وقد كان الجوع والفقر سببا مباشرا لعدم التحاقه بالتعليم خصوصا بعد وفاة والده، وكان لوالديه أثر واضح في تشكيل تفكيره، فهو يتحدث بلطف عن والده ووالدته، التي يقول إنها علمته الحوار واحترام اختيارات الآخرين بالقدوة والحب، لتدفعه هذه التجربة القاسية لتكريس حياته من أجل تحسين حياة الفقراء، والتفكير برؤية ثورية قائمة في الرغبة في تحويل المقهورين محررين لأنفسهم ولقاهريهم عبر الحوار.
بنى فريري مفهومه للحوار التربوي على فلسفته الأخلاقية، والتي تقول بأن التطبيق العملي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحوار الحقيقي الذي هو شكل من أشكال التطبيق العملي لإضفاء الطابع الإنساني، ويفترض أن الحوار يتم بين طرفين متساويين في الحقوق، وأنه- أي الحوار- لا يتم إلا بوجود ثلاثة عناصر أساسية، أولها أن لكل شخص حق التعبير عن أفكاره، وثانيها أن الحوار لا يمكن أن يكون عملاً "لإيداع" الأفكار في شخص آخر، أما العنصر الثالث فهو أن الحوار يجب أن ينأى عن الجدل والإساءة للغير.
وتأكيدا على أهمية الحوار بين المعلمين والمتعلمين، دعا فريري الى وجوب أن يكون نظام التعليم ديمقراطيًا وحواريًا حسب المعايير الآتية:
• الحب أساس الحوار وجوهره، فحب شخص ما يعني الاعتراف بحقه بالحياة وبحريته، ومن المستحيل إقامة الحوار مع الآخرين دون أن يكون الحب أساس العلاقة معهم.
• التواضع ضروري للحوار، فالعلاقة الحوارية المبنية على التواضع من الطرفين وسيلة للتعلم والعمل.
• الإيمان بإنسانية الانسان، وأن البشر طيبون؛ يستطيعون تغيير ظروفهم إذا قام حوارهم على مبدأ الاحترام المتبادل.
• الثقة بوعي الآخرين وبمقدرتهم على إحداث عملية التغيير.
• الأمل، فوجودنا مرهون بالأمل على مواجهة الواقع، واليأس نوع من الصمت وهروب من مواجهة الواقع.
• التفكير الناقد، فالمفكر الناقد يرى في المستقبل عملية تطور مستمرة لتحقيق إنسانية الانسان وحريته، ودون تفكير ناقد لا ينظر إلى الواقع على أنه عملية تطور مستمرة بل حالة يكتنفها الجمود.
أما حول انعكاس تلك المبادئ على عملية التعليم (التدريس)، فأنني أرى أنه يتطلب لتطبيق المبادئ السابقة، وجود معلما لديه مسؤولية أخلاقية ذات نظرة إيجابية لطلبته بأنهم مبدعون وقادرون على التعلم، ولديه درجة كبيرة من التواضع ديمقراطيا، مؤمنا بأنه ليس المصدر الوحيد للمعرفة وأنه سيطورها بالحوار مع طلبته، قادرا على احترام إستقلالية طلبته بإحترام قدرتهم وتطلعاتهم نحو التعلم، ولديه ثقة متبادلة مع طلبته، ويعمل بإستمرار على إمتلاك إستراتيجيات وأساليب تدريس تجعله ميسرا للعملية التعليمية من خلال تنمية مهارات التفكير النقدي، ويكون دوما قادر على بث الأمل الفردي والجماعي في طلبته ويشعرهم بأنهم قادرون على الإبداع والتميز في حل المشكلات.
وبناء على ما أوردناه؛ فإن الحوار ضرورة وجودية تجمع بين الفكر والعمل، وبين إدراك العالم والعمل على تغييره، وخلاصة القول أن للحوار شروطا لا بد من توافرها في العملية التعليمية، فدون تحرر من الاستغلال والسيطرة بين أركان العملية التعليمية، ودون ثقة متبادلة بين هذه الاركان، لا يمكن إرساء الحوار ويضاف إلى ما سبق الاهتمام بتنمية التفكير الناقد لدى الطلبة عن طريق التعلم بالمشروع وحل المشكلات، وتجنب نزعة الاستعلاء على الآخرين من كل الأطراف من منطلق أنسنة التعليم، وتبادل الحب بين الأفراد، والتعاون والوحدة والتكامل من أجل التحسين والتغيير نحو الأفضل، والوعي بمحيط البيئة التعليمية، فكلها مقومات تعزز وصولنا حتما إلى بيئة تعليمية نموذجية قائمة على تفاعل بشري من خلال التربية الحوارية وهذا ما طبقته فلندا؛ الدولة التي غدت رائدة على مستوى العالم في التعليم.
في الختام؛ ما أحوجنا إلى إرساء نهج يعزز الحوار باعتباره ثقافة لا مجرد وسيلة، فهو في المحصلة ليس إجراء ميكانيكيا بل نهج تربوي بامتياز، مؤطر لأنسنة العلاقة، وتأطيرها في إطار ديمقراطي، وبذا يغدو ركيزة لا يقتصر تأثيرها على التربية، بل يطال التربية على التربية والتربية على المواطنة.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين
سري القدوة
حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال
د. دلال صائب عريقات
سموتريتش
بهاء رحال
مبادرة حمساوية
حمادة فراعنة
Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة
بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي
التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً
بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة
أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي
بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
ويسألونك...؟
ابراهيم ملحم
الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية
منير الغول
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
الأردن: قصف إسرائيل حيًّا ببيت لاهيا ومنزلا بالشيخ رضوان "جريمة حرب"
هولندا: سنعتقل نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية
الأكثر قراءة
"حماس" تنفي انتقال قياداتها من قطر إلى تركيا: أنباء غير حقيقية
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
دينار / شيكل
بيع 5.24
شراء 5.22
يورو / شيكل
بيع 3.85
شراء 3.83
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%52
%48
(مجموع المصوتين 92)
شارك برأيك
التعـليم الحـــــــواري