أثار السؤال الذي طرحته عليّ تلك الصبية في ورشة التدريب شيئا عميقا في داخلي: هل تؤدي تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تآكل قدراتنا الذهنية؟ سؤال مشروع في زمن تتحول فيه "المهارات" إلى أزرار، و"المعرفة" إلى نتائج بحث.
انطلق الذكاء الاصطناعي ليعيد تشكيل العالم، لا ليمحو عقولنا، بل ليحرّرها من الاستنزاف، دعنا نتخيل المهام اليومية المتكررة التي نقوم بها مرارا، ماذا لو تولت أدوات الذكاء هذه المهام؟ ألن يتاح لنا الوقت والصفاء الذهني لنفكر أعمق، ونبتكر أكثر، ونطلق العنان لأدمغتنا ومشاعرنا ونعيش أفضل؟
اخترق الذكاء الاصطناعي كل مجال دون استئذان، من الطب إلى الإعلام، ومن التعليم إلى الفن، لا مكان اليوم لا يعرف فيه الإنسان شريكا آليا، في مهنته أو تفاصيل حياته، وهنا، يكمن التحدي لا في وجود الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية استخدامه، إن استخدمناه ليعزز تفكيرنا، رفعنا السقف، أما إن اعتمدنا عليه ليسرق منا التفكير، هبطنا وأدمغتنا إلى الحضيض.
نعم، استسلم البعض لإغراءات السهولة، ربما لم نعد نكتب أفكارنا، رغباتنا، آمالنا، طموحاتنا، بل أحيانا نطلب من الذكاء الاصطناعي أن "يفكر بدلا منا". هنا، تحدث الكارثة الفكرية، لا لأن الآلة أخذت دوره، بل لأن الإنسان تراجع خطوة، وتنازل عن دوره السامي في التفكير والتحليل وصناعة القرار.
تجاهل كثيرون الفرق بين "الأداة" و"البديل"، فحين تترك الآلة تصمم وتبني وتقرر، وأنت تكتفي بالمراقبة، فأنت لم تستعن بها، بل استُبدلت.
فقد البعض شغف المعرفة لأنهم لم يعودوا مضطرين للبحث، لماذا مثلا أفكر في حل مسألة رياضيات أو فيزياء إذا كان الذكاء الاصطناعي يستطيع حلها في عشر ثوانٍ؟ لماذا أتعلم لغة جديدة إن كان بمقدوري الترجمة الفورية؟ هذا النوع من التفكير هو بالضبط ما يُضعف قدراتنا الذهنية، لا لأن الذكاء الاصطناعي قوي، بل لأننا أصبحنا غير راغبين في بذل الجهد العقلي.
فهمت تلك الصبية أن المسألة ليست في الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في طريقة توظيفنا له، كبشر لا تُخيفنا الأدوات، بل تُخيفنا عقول تتخلى عن دورها الريادي لصالح الراحة المطلقة، فالذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان، بل ينتظر منه أن يتحول من منفذ إلى مبدع، من مستهلك إلى صانع رؤية.
واجهنا هذا السؤال من قبل، حين ظهرت الحواسيب والانترنت لأول مرة، قيل وقتها إنها ستقتل مهارات الكتابة والحساب والبحث، لكن من تعلم استخدامها كمساعد وأداة، تضاعف إنتاجه، وارتفع فكره، فالذكاء الاصطناعي هو الحاسوب الجديد، والامتحان ذاته يعود إلينا من جديد.
دافع عن عقلك كما تدافع عن جسدك، لا تُثقل عقلك بمهام يدوية متكررة، لكن لا تتركه يسترخي حتى يتيبس ... تماما كعضلات الجسد، العقل إن توقف عن العمل، بدأ في الذبول، فذكاءك ليس في قدرتك على الاسترجاع، بل في شجاعتك على التحليل، والربط، والابتكار.
اعتمد على الذكاء الاصطناعي كمساعد لا كبديل. اسأله، ناقشه، طوّر نتائجه، تعلم منه، واصنع منها شيئا جديدا، أعتقد بهذه الطريقة، تنمو قدراتك، لا تتآكل، وبهذا النهج، تتحول الأدوات من "تهديدات" إلى "فرص".
ابدأ بإعادة تعريف الذكاء في حياتك، لم يعد الذكاء هو الحفظ أو المعرفة الخام، بل القدرة على التمييز، وعلى إدارة المعرفة، وعلى النقد والتحليل، ومن هنا، يصبح الذكاء الاصطناعي سندا حقيقيا، لا تهديدا صامتا.
تذكّر أن العقل البشري هو الأكثر تكيفا بين مخلوقات الأرض، فالانسان تنقل بكل شجاعة بين حقب والعصور واجه النار والرمح والآلة والبخار والإنترنت، لن يخشى تطبيق جديد، الخطر الحقيقي لا يأتي من الذكاء الاصطناعي، بل من خمول الإنسان.
اختر أن تكون في المقدمة، استخدم كل أداة ممكنة، واختبر كل فكرة وومضة، وأصقل كل مهارة، دع الذكاء الاصطناعي يعمل معك، لا عنك... تذكّر أن المستقبل لا يُكتب بذكاء الآلة، بل بإرادة الإنسان.
شارك برأيك
هل يُتلف الذكاء الاصطناعي عقولنا؟