أقلام وأراء
الأربعاء 13 أبريل 2022 2:10 مساءً - بتوقيت القدس
الغضنفر
بقلم: جواد بولس
كانت حركة الوافدين على مدخل مسستشفى ” كابلان” ، في مدينة رحوبوت، خفيفة؛ فدرجات الحرارة كانت مرتفعة بشكل استثنائي، واخبار عودة انتشار فايروس كورونا بدأت، على ما يبدو، تردع البعض وتلزمهم بالتحرك ساعة الضرورة الملحّة فقط، كيلا تعود أيام الحصار المقيتة.
دخلت من الباب الرئيسي وبدأت أمشي نحو قسم الامراض الباطنية في الطابق السابع؛ فهناك سوف ألتقي بموكّلي، الغضنفر أبو عطوان، الذي نقل من سجنه إلى هذا المستشفى في منتصف حزيران على أثر تردّي حالته الصحية بسبب اضرابه عن الطعام.
في البداية انتابني شعور من الغربة والضيق، فزوّار المكان كانوا مختلطين بالمرضى وكان الجميع يتحركون بتثاقل واضح ووجوههم مغطاة بالكمامات الملونة؛ كان بعضهم يَجرّ أو يُجرّ على كراس متحركة، ارتفعت من جنبات عدد منها مواسير فضية، تتدلى من رؤوسها أكياس مليئة بالسوائل ومنها تنطلق انابيب بلاستيكية رفيعة تغور أطرافها في اذرع ركاب تلك الكراسي. وقفت للحظة أراقب، فانتبهت كيف كان الجميع يتدحرجون ببطء وبصمت، ولا يتكلمون، حتى تخيّلت نفسي أمام مشهد من أحد أفلام الخيال العلمي وهؤلاء أشباح غريبة أو مخلوقات تشبه البشر.
لم أتوجه إلى منطقة استعلامات المستشفى، فما أن استأنفت تقدمي أيقَظت رائحة المكان ذاكرتي؛ فمشيت وانحنيت يمنة ويمنة فيسرة حتى توقفت، بعد عدة دقائق، أمام المصعد المناسب الذي سيقلني، كما أقلني في السنوات الماضية، نحو الطابق السابع، حيث رقد رفاق الغضفنر قبله.
في المصعد شعرت باختناق شديد. كان الهواء ثقيلًا ومشبعًا بروائح المرض والعرق والأدوية. توقفنا في كل طابق؛ كانت ثرثرة ” المسافرين” متواصلة وفوضاهم في تحديد وجهة المصعد مزعجة، فنزل من نزل وصعد آخرون وكأنهم في رحلة طيران مجانية؛ وأنا، من مكاني في الزاوية الخلفية، كنت أحاول، أن استعيد ما خبرته من زيارات المشافي، فلكل مشفى رائحته الخاصة وكل الروائح تذكرنا بالموت.
لم يكن أمام الغرفة حرس السجون أو رجال أمن؛ فدخلتها، بعد أن مررت على أسرّة أربعة مرضى اسرائيليين تعمّدوا اشاحة أعينهم عني، فتذكرت، لحظتها، ما اسم ذكر النعام.
استقبلتني أخته بنازير حارسة سلامته وذات الشخصية القوية اللافتة، وعرّفتني على والدته وعلى ضيفين، رجل عربي وسيدة يهودية، جاءا ليتضامنا مع أخيها. جلست قريبًا منه، فأدار وجهه نحوي بصعوبة ولم يتكلم. سألته إن كان يعرفني فأجابني بهزة خفيفة من رأسه وتبسم. سألته ماذا تريد مني ؟
حاول أن يستقيم بجسده فبدت المهمة مستحيلة؛ لقد خانه الجسد وبقيت معه العزيمة. عيناه ناعستان تشعان، من فتحتين صغيرتين، اصرارًا طفوليًا؛ وذقنه مكسوة بشعر داكن، كلون الحناء أو ربما الكستناء، وحاجباه سيفان جميلان يحملان جبينًا شهيًا، وشعره تخفيه كوفية عقدها مستديرة على راسه، كزنار من شمس، بطريقة “خليلية” مألوفة، وأرخى من طرفها ذيلًا يشبه ذيل الفرس.
“أريد منك أن تخرجني من هنا الى البيت”. قال بصوت خفيض وسبابته تلوح برقة في الفضاء، ثم أردف مؤكدًا أنه يعي خطورة وضعه الصحي؛ فهو مضرب منذ خمسة وخمسين يومًا ولا يشرب إلا الماء ويرفض إجراء الفحوصات الطبية؛ لكنه يعرف أيضًا أنه مسجون، منذ بداية شهر اكتوبر الماضي، من دون سبب وبلا محاكمة. فإما الحرية وإما الحرية؛ قال بحزم وحاول ألا يغفو.
أوجزت أمامه خلاصة الاجراءات القانونية التي استنفدت حتى موعد زيارتي له؛ فبعد أن أمضى مدة ستة شهور في السجن وفق أمر الاعتقال الاداري الأول، قرر قائد جيش الاحتلال الاسرائيلي اصدار أمر اعتقال جديد لمدة ستة أشهر اضافية؛ فصادقت المحاكم العسكرية على أمري الاعتقال ومثلها فعلت محكمة “العدل” العليا، وذلك “بذريعة كونك عنصرًا خطيرًا في “التظيم” وتهدد بميولك الى النشاط العسكري أمن وسلامة المنطقة والمواطنين. وبعد أن تردت حالتك الصحية، وفق تقارير أطباء المستشفى، تقدمت النيابة العامة الاسرائيلية بطلب من المحكمة العليا لتجميد امر الاعتقال أو لتعليقه، فبكونك مقعدًا، وبحالة صحية حرجة، لم تعد تشكل خطرًا كما كنت، وذلك حسب ادعاءات النيابة .
ولقد استجاب قضاة المحكمة العليا لطلب النيابة، وقرروا، في الرابع والعشرين من حزيران المنصرم، تجميد أمر الاعتقال بحقك، وأوضحوا أنك، منذ تلك اللحظة، ستبقى في مستشفى كابلان ولكن ليس كأسير، ولن يحرسك حراس مصلحة السجون ولا غيرهم، بل كمريض حيث ستستطيع عائلتك زيارتك، وفق قواعد الزيارة المتبعة في المستشفى. واضافوا، أنه وفي حالة استردادك لصحتك ستسترد أيضًا قوات الأمن الاسرائيلية “حقها” في تجديد أمر الاعتقال الاداري بحقك”.
كانت تعابير الدهشة تنطق من وجهه المتعب ؛ حاول أن يستوضح كيف يمكن أن تصدر هيئة قضائية مثل هذا القرار-السخرية، فأين القانون وأين المنطق ..؟ قاطعته، وقلت له بألم قليل وبكثير من العتب المبطن: “ألم تتعبوا، أنتم هناك في فلسطين المحتلة، من التفتيش عن القانون في خوذات الجنود؟ أولم تيأسوا من الركض وراء المنطق الوهمي في قرارات محاكم الاحتلال ؟ أما زلتم تؤمنون بعدل بنادق رسمت المواجع على شواهد قبوركم”؟
لم أقسُ على الغضنفر؛ وقلت ما قلته بلغة المحامي المجرّب الذي يعرف كيف تكون قلوب هؤلاء المناضلين أرق من نبع، وآمالهم معلقة على رموش العبث. فأنا في الحقيقة أستوعب دهشته ازاء ما تفتقت عنه عقول أجهزة القضاء الاسرائيلي حين اخترع قضاة ما يسمى بمحكمة “العدل” العليا” امكانية تجميد قرار الاعتقال الاداري الصادر بحق المواطن الفلسطيني وابطال مكانته ، بالمفهوم القانوني، كأسير ؛ لكنهم، يمنعوه، في نفس الوقت، أن يتصرف كانسان حر، وأن يختار المكان الذي به سيعالج أو يموت. لقد حوّلوه الى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، بفذلكة وقحة تشبه شطحات محاكم التفتيش الجهنمية، المسؤولية عن حياته وعن حريته. فمن بدأ في سنوات الخمسين الماضية باختراع منزلة “الحاضرين الغائبين” سيعرف اليوم كيف يخترع منزلة “المحرر الأسير”.
سألته إن كان يعرف شيئًا عن تاريخ محاكم التفتيش، فلاحظت على زجاج النافذة التي بجانبه صورة وجهه وبسمة خفية وسرب حمام كان يطير بسلام.
بعد نصف ساعة تقريبًا دخلت علينا الطبيبة، رئيسة القسم، وطلبت أن تشرح بحضوري للغضنفر حقوقه وواجباتها؛ فهي كطبيبة مسؤولة عن بقائه حيًا، عليها أن تقوم بفحصه وبمعالجته. سمعها باحترام ورفض ما طلبته بحزم. احترمَت موقفه وحذّرتْه من أنه يمر في وضع صحي حرج وقد تصيبه في كل لحظة جلطة دماغية أو سكتة قلبية وقد يقع ضحية لحالة وفاة فجائية. أصغى لها بانتباه شديد، ومدّ كفه نحو السماء واغمض عينيه، لهنيهة، ثم نظر نحو أمه، التي كانت تستمع للحديث بعينين حائرتين وبشفة مزمومة وسمرة تشبه لون العناب، وقال للطبيبة بطيبة: إما ذلك المدى، وأشار نحو سرب الحمام البعيد، واما هذا الردى. أحسست بركانًا في شراييني وتمنيت لو أكتب اليوم قصيدة يكون مطلعها: “على هذه الارض من يستحق الحياة” .
نظرتُ في عيني الطبيبة التي كنت أعرفها منذ سنوات وتابعت معها عدة حالات اسرى مشابهة، بدءًا من قضية الاسير سامر العيساوي، في العام 2012، وآخرها قضية الاسير ماهر الاخرس، في العام 2019، فلم أجد في عينيها غير الحيرة والدهشة. بلعت ريقها. توقفتْ عن الكلام للحظات ثم تابعته فقالت للغضنفر : أنت في الواقع بالنسبة لنا انسان حر وتستطيع ان توقع على وثيقة مغادرة وتغادر المستشفى على مسؤوليتك، لكنني ملزمة، هكذا اردفت، أن أخبرك أنك اذا اخترت ذلك، سأقوم بإخبار حرس المستشفى، فلربما لديهم تعليمات اخرى. لم ينتظر الكمالة فأجابها مباشرة : لن أوقع لكم على أي ورقة، واعلمي أننا والحرية على ميعاد.
أعلمته بدوري انني انتظر من المستشفى اعداد تقرير طبي جديد، فبعد استلامه سوف اتوجه الى الجهات الاسرائيلية المعنية وساطالب بالافراج عنه أو بنقله الى مستشفى فلسطيني، واننا سنلتقي قريبًا. استسمحته المغادرة، فاذن لي بعد ان ضمن وعدي بأن أكون ضيفهم على مائدة التحرير؛ غصصت، وأعلنت عن اضرابي عن الطعام كي آتيهم جائعا. ضحك مثل فلة أصيلة، ووضع سبابته على شفتيه وحررها برشاقة فارس فكانت هذه قبلته هي زوادتي في طريق عودتي.
تواصلت مع الاخوة في نادي الاسير، وبلغتهم تفاصيل زيارتي؛ فأفرحوني بتفاصيل عملية الافراج عن الشيخ خضر عدنان بعد شهر من خوضه أضرابًا محكمًا عن الطعام. وقرأوا لي مقطعًا من رسالته التي نشرها فور تحرره حيث خصني بها بمقطع قال فيه : “سلامي للمحامي الانسان الذي افتخر به، ورافقني في السنوات (2011,2012, 2015, 2018 ,2021 ) جواد بولس الفذ، الذي أفخر بصحبته وأهله وزوجه وعياله. ابنته كتبت لي في بداية الاضراب: الحرية لخضر عدنان. وأسأل الله أن لا أكون قد خذلتها ، ولا الأهل في كفرياسيف ، ولا في الجولان، ولا في المثلث، ولا في غزة، ولا في الشيخ جراح، ولا في القدس ولا في جنين ولا في أي موقع”. سمعت الرسالة بغبطة جمة، ونظرت إلى الأعلى. كان شباك الغضنفر فوقي ، وكنت أسمعه ، هكذا خيّل لي، يردد معي “على هذه الأرض من يستحق الحياة “. طرت عائدًا إلى وعدي ومن فوقي راح يصفق سرب حمام.
المزيد في أقلام وأراء
تقليص مساحة غزة وتهجير أهلها.. أخطر المخططات الإسرائيلية
حديث القدس
2024 عام الزلازل و2025 عام الهزات الارتدادية
راسم عبيدات
غزة.. بداية عام جديد والإبادة مستمرة
بهاء رحال
رغم المجاعة.. التكافل في غزة بـ"الرغيف"
ريما محمد زنادة
وكالة الغوث.. ومعركة نزع الشرعية
فتحي كليب
مهابةُ الفكرةِ وهيبةُ المسيرةِ
عام التحديات
حديث القدس
ستون عاماً من الثورة.. النصر آت ؟
د. فوزي علي السمهوري
توثيق التعذيب في فلسطين.. بين الأمل بالإنصاف والتحديات العملية
سماح جبر
معركة غير متكافئة
حمادة فراعنة
الحرديم ولماذا يرفضون قانون التجنيد؟ حرب أهلية مقبلة
إسماعيل المسلماني
تمر الأعوام وتبقى الآلام
حديث القدس
انكشاف المستعمرة وعريها
حمادة فراعنة
2024 عام الكارثة والبطولة.. 2025 عام الحسم
هاني المصري
نحن في حالة ضياع وتيه... والبداية من مخيم جنين
راسم عبيدات
حسام أبو صفية.. الطبيب يتحدى الإبادة
جمال زقوت
صناعة القائد في وسائل الإعلام.. بين التلميع والتضليل
د. أسامة ارميلات
تصعيد مرعب للجرائم الإسرائيلية الفظيعة
حديث القدس
لسان الحال والأحوال.. علقم يا وطن
إياد أبو روك
صباحُ الخَيْر يا غزَّة
بهاء رحال
الأكثر تعليقاً
قرار بوقف بث وتجميد كافة أعمال فضائية الجزيرة والعاملين معها ومكتبها في فلسطين
النداء الأخير من المحرقة...صرخة أنس تقرع جدران الخزان
بهدوء.. أسئلة وأجوبة!
إسرائيل ترفض تزويد السلطة الفلسطينية بالسلاح لدعم عملية جنين
مقتل الصحفية شذى الصباغ في جنين.. دعوات لتحقيق مستقل وشفاف تشارك فيه جميع الأطراف
في الذكرى الـ60 لانطلاقة "فتح".. تحديات راهنة وآفاق واعدة
"حارس أملاك الغائبين".. الحرامي يسطو على أراضي السكان الأصليين
الأكثر قراءة
طلبة الإعلام في العربية الأمريكية يزورون "القدس"
نيويورك تايمز: وراء تفكيك حزب الله عقود من الاستخبارات الإسرائيلية
هآرتس: اختفاء غزيين كانوا معتقلين لدى الجيش الإسرائيلي
مقتل الصحفية شذى الصباغ في جنين.. دعوات لتحقيق مستقل وشفاف تشارك فيه جميع الأطراف
مفاوضات الصفقة.. المحتجزون يُلدغون من جُحر نتنياهو عشر مرات!
القسام تقتل 5 جنود إسرائيليين من المسافة صفر في مخيم جباليا
2025 عام التحولات وسقوط الأقنعة والسرديات.. تحديات خطيرة تُحدّق بالقضية الفلسطينية
أسعار العملات
الأربعاء 01 يناير 2025 2:37 مساءً
دولار / شيكل
بيع 3.65
شراء 3.64
دينار / شيكل
بيع 5.15
شراء 5.12
يورو / شيكل
بيع 3.79
شراء 3.77
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%59
%41
(مجموع المصوتين 336)
شارك برأيك
الغضنفر