Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الأربعاء 19 مارس 2025 9:37 صباحًا - بتوقيت القدس

غزة في الميزان.. نظرة على حركات التحرر العالمية



 أمين الحاج/ الجامعة العربية الأمريكية


شهد التاريخ المعاصر الكثير من حركات المقاومة حول العالم، ورغم عوامل التشابه إلا أن الحالة في غزة أيضا تحمل الكثير من جوانب الاختلاف، وبمقارنتها مع أبرز حالات المقاومة المسلحة كالفيتنامية والجزائرية والأفغانية، من خلال تحليل الوقع والسياق والنظر إلى جوانب مهمة أخرى، كحجم العداء والمخاطر التي واجهتها والعوامل التي مكنتها وأخيراً الدروس المستفادة من ذلك، آخذين بعين الاعتبار خصوصية بيئة غزة من الحصار والانقسام الداخلي.

عادة ما تواجه حركات المقاومة قوى عسكرية عظمى أو استعمارية، تتفوق عليها عدة وعتاداً، إضافة إلى خصومها الداخليين المحتملين، ففي الحالة الفيتنامية، خاضت المقاومة حربين ضاريتين؛ الأولى ضد الاحتلال الفرنسي ثم الأخرى ضد التدخل الأمريكي في فيتنام الجنوبية، ورغم شراسة العداء وحجم القوة النارية فقد عجزت عن إخضاع الفيتناميين، وكان على ثوار "الفيت كونغ" أيضاً مواجهة حكومة فيتنام الجنوبية وجيشها المدعوم أمريكياً، وذلك كخصم داخلي، ومع ذلك صمدت جبهة التحرير وقوات فيتنام الشمالية إلى أن تحررت وتوحدت البلاد عام 1975، والحال أيضاً في الجزائر التي اعتبرتها فرنسا جزءاً لا يتجزأ منها، فحشدت لقمع ثورتها، ولجأت إلى الأساليب الوحشية وحرق وتدمير القرى واحتجاز المدنيين في معسكرات الاعتقال، وهي أيضاً واجهت معارضة داخلية تمثّلت في "الحركيين" الجزائريين المجندين في صفوف الجيش الفرنسي والمستوطنين المتعصبين في "الجيش السري"، ورغم ذلك استمروا حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962، أما في أفغانستان، فقد حشدت القوات السوفيتية عام 1979 للسيطرة على المدن والطرق وأحرقت الأرض ودمرت قرى بأكملها لحرمان المقاومين من الملاجئ، ووقف الجيش الأفغاني ضد المقاومة، ثم انسحب الروس، ووجدت المقاومة نفسها مرة أخرى في مواجهة قوة عظمى أخرى، هي الولايات في حربها على "الإرهاب" فواجهوا الغزاة المدعومين بالجيش الأفغاني مرة أخرى، واستخدمت قوة نارية هائلة وأسلحة محرمة وتكنلوجيا غير مسبوقة، وصمدوا إلى أن انسحب الأمريكيون 2021.

أما في غزة، فما من شك أن الظروف هناك قد تكون الأقسى والأكثر تعقيداً، فهي بمواجهة قوى إقليمية، رأس حربتها الاحتلال الذي يفرض حصاراً على غزة، براً وبحراً وجواً منذ 2007 ، ويجد دعماً سياسياً وعسكرياً في ذلك بحجة تصنيف الغرب للمقاومة هناك كمنظمات "إرهابية"، الأمر الذي "يبرر" - في نظرهم-  استمرار عزلها عن العالم، ورغم تعاطف الشعوب العربية والإسلامية وحتى الغربية، إلا أن سياسات الدول والنظم المجاورة خلاف ذلك، الأمر الذي يزيد من خطورته الانقسام الداخلي، وبالتالي فإن هذا المزيج من العداء الخارجي الشديد و"المعارضة" الإقليمية والمحلية، جعلها بيئة بالغة الصعوبة، وهي لا زالت صامدة -رغم أنها تنزف- رغماً عن الدمار الهائل والحصار.

وبرغم شراسة الأعداء وكثرة التحديات، تمكنت حركات المقاومة من الانتشار والصمود بفضل جملة من العوامل المشتركة، من أبرزها الدعم الشعبي والتعبئة الأيديولوجية وارتباطها بهوية وثقافة الشعوب، فجميعها اتكأت إلى حاضنة شعبية، ما جعل من المستحيل على القوى الكبرى كسرها، فقدمت ثورة فيتنام كحرب تحرير وطنية مقدسة، وكذلك الجزائر، حيث لبى الجزائريون نداء الثورة بفعل "رصيد" عقود من الظلم والقهر، أو كواجب ديني ووطني، وكذا الحال في أفغانستان، فكانت دفاعاً عن تقاليدهم الإسلامية والقبلية، وفي جميع الحالات وفرت القرى ملاذات آمنة للثوار، وكان الأهالي يتقبلون مشقة إيوائهم على الرغم من المخاطر، لقناعتهم بأنهم يخوضون حرباً مشروعة لتحرير بلادهم، وهكذا فإن قاعدة الحاضنة الشعبية كانت ضرورية لاستمرار أي مقاومة، فبدون التأييد الشعبي تذبل ولا تقدر على الاستمرار.

وإلى جانب ذلك، حظيت حركات المقاومة بدعم خارجي، مكنها من تعديل كفة ميزان القوة المختل، فتلقت الفيتنامية دعماً مختلفاً من الصين والاتحاد السوفييتي، وفي الحالة الجزائرية، وحظي الثوار بدعم عربي سياسي ومادي من الدول العربية والكتلة الشرقية، ولعب العمق العربي والإسلامي دوراً مهماً، وكذا الحال أفغانستان حيث شكل الدعم الخارجي حجر الزاوية الأمر الذي كسر "الجيش الأحمر" ثم الجيش الأمريكي.

والحال ذاته في غزة فرغم محدوديته، لعب الدعم الخارجي دوراً هاماً، حيث استطاعت المقاومة الحصول على دعم عسكري من حلفاء إقليميين، فضلاً عن تكنولوجيا صناعة الصواريخ والمدافع، الأمر الذي مكنها من بناء ترسانة صاروخية "معتبرة" تحت الحصار، فضلاً عن التضامن الشعبي الواسع حول العالم.

هذا الاختلال الهائل في ميزان القوى حاولت حركات المقاومة تعويضه، إما من خلال "تكتيكات مرنة"، الأمر الذي مكنها من الاستفادة القصوى من التضاريس أمام جيوش نظامية ضخمة، فكانت التكتيكات البدائية والأنفاق والمخابئ التحت أرضية في فيتنام، والطبيعة الجبلية الوعرة ما سمح بإنشاء المعاقل الجبلية في الجزائر، واستخدمت الصحارى الشاسعة جنوباً كملاذات أو لنقل الأسلحة، وكانت الجبال والهضاب الوعرة والشتاء القارس سلاحاً استراتيجياً في أفغانستان، جعلها تشتهر بأنها "مقبرة الإمبراطوريات"، وأمام هذه التكتيكات تآكلت أفضلية الجيوش النظامية، وانخفضت فعالية القوة النارية بانتقال القتال إلى ميادين غير تقليدية.

وفي حالة غزة كان الابتكار والتأقلم جزءاً أصيلاً من استراتيجية المقاومة للبقاء، ولتجاوز عوامل الضعف الجغرافي والعسكري، فرغم جغرافيتها الصغيرة والمكشوفة، ابتكرت المقاومة وسائل لخلق "جغرافيا بديلة" تحت الأرض، تخفي حركة المقاتلين وتؤمن مراكز قيادة ومستودعات أسلحة، ما مكنها من تجاوز إشكالية التضاريس، وكانت حرب المدن وأزقة المخيمات التي أعاقت التفوق التقني الإسرائيلي، وقللت من تفوق الدبابات، فضلاً عن تطوير قدراتها التصنيعية لتعويض شح الموارد.

فقد تميزت المقاومة في غزة عن غيرها بأنها تعمل في ظروف حصار مطبق، ومعارضة إقليمية ودولية قل نظيرها تاريخياً، فالفيتناميون كان لديهم ظهير، دولة الشمال والدعم السوفييتي والصيني، والجزائريون دعمهم جوارهم العربي وأصدقاء دوليون، والأفغان وفر لهم العمق الباكستاني والإيراني، أما في غزة، فالمقاومة محصورة ضمن شريط ضيق مغلق تماماً من كل الجهات تقريباً، ما يعني عدم وجود منافذ؛ فلا جبال ولا حدود مفتوحة ولا دول صديقة محاذية، ما تركها كـ"سجن في الهواء الطلق" وفوق ذلك كله، تتعرض لضغوط سياسية وعسكرية تفوق ما واجهته الكثير من حركات التحرر الأخرى.

إن مقارنة تجربة غزة بالحركات التاريخية تخبرنا أن تجارب الجزائر وفيتنام في تحقيق الوحدة تحت راية مشتركة وقيادة مركزية كان حاسما للنصر، وأيضاً ضرورة الحفاظ على الحاضنة الشعبية، وكسب العقول والقلوب، الأمر الذي يتطلب تقديم خطاب مقنع وبأن تضحيات اليوم هي ثمن الحرية غداً، كما أن الممارسات المنضبطة مهمة، ولتبقى المقاومة أخلاقية في نظر شعبها والعالم، فرغم التشويه الإعلامي الغربي، كسبت المقاومة تعاطف شعوب الأرض، والأمر الآخر هو الاستفادة القصوى من الدعم الخارجي والحفاظ على استقلالية القرار، فرغم أهمية المساعدات الخارجية، لا بد من بقاء قرار المقاومة بيد أبنائها.

كما أن جميع الأمثلة التاريخية تؤكد أن طول النفس هو عامل انتصار حاسم، فالفرنسيون انهارت إرادتهم أمام صمود الجزائريين وضراوة كفاحهم، وكذا الأمريكيون في فيتنام وأفغانستان، حيث حروب الاستنزاف التي لا نهاية لها مع خصم مستعد للقتال لعقود، وكذا الحال في غزة، فطالما ملكت الإرادة لمواصلة المقاومة مهما بلغت التضحيات، فإن الجانب الآخر سيواجه معضلة الاستنزاف وعدم القدرة على تحقيق "نصر حاسم"، ثم المرونة والتعلم من الأخطاء، الأمر الذي يجعل كل فعل مقاوم، حتى لو كان "فاشلاً"، درساً قيماً.

ختاماً، بينما يشتد الخناق على غزة التي ورثت شعلة حركات التحرر في العالم، فإن استحضار نجاحات الماضي والتعلم منها يبعث الأمل، وبأن غزة ستكتب بدمائها وعظيم صمودها، فصلًا جديدًا من فصول انتصار إرادة الشعوب على جبروت القوى الغاشمة، وإنها حلقة أخرى من ذات الرواية التاريخية المتكررة، ضعيف مكافح يتحدى كبيراً متغطرساً، وبين معاناة وتضحية، ينتصر الضعيف أخيراً بصمود أهله.


................

تميزت المقاومة في غزة عن غيرها بأنها تعمل في ظروف حصار مطبق، ومعارضة إقليمية ودولية قل نظيرها تاريخياً، فالفيتناميون كان لديهم ظهير، دولة الشمال والدعم السوفييتي والصيني، والجزائريون دعمهم جوارهم العربي وأصدقاء دوليون، والأفغان وفر لهم العمق الباكستاني والإيراني.

دلالات

شارك برأيك

غزة في الميزان.. نظرة على حركات التحرر العالمية

المزيد في أقلام وأراء

الأولويات الوطنية وسندروم التآكل الذاتي

جمال زقوت

ضرب الحوثي والعين على إيران

طلعت إسماعيل

جرائم تتجاوز كل الخطوط الحمراء

حمادة فراعنة

تصيّد الحرب.. ضرب من الجنون

بهاء رحال

سوريا الآن في أخطر مفترق طرق

عريب الرنتاوي

هل توجه أمريكا وإسرائيل ضربة عسكرية استباقية لإيران؟

راسم عبيدات

والناس نيام !

ابراهيم ملحم

ويتكوف إذ ينقلب على نفسه!

إبراهيم ملحم

معوقات نجاح المرحلة الانتقالية للإدارة السورية الجديدة

كريستين حنا نصر

هل سيحقق المجلس المركزي الإصلاح الشامل ويواجه التحديات الوطنية المصيرية؟

بسام زكارنة

حماس أول الخارجين عن مقررات القمة العربية!

د. رمزي عودة

موقف .. هل حقاً تراجع ترامب عن فكرة التهجير؟

سياسات واشنطن المعادية لفلسطين

حمادة فراعنة

الحضور الفلسطيني والانحسار الإسرائيلي

حمادة فراعنة

الإسلاميون وقرنٌ من المحاولة.. أفكارٌ ورؤية لم تتحقق!!

د. أحمد يوسف

مبدأ حل الدولتين.. هل أصبح خياراً دولياً في طريق التلاشي؟

مروان إميل طوباسي

بين ثغرتي الدفرسوار وكورسك.. ما هي المفاجأة !

جودت مناع

ترامب.. سياسة الفوضى

بهاء رحال

ترمب ــ أوروبا: نحو نظام عالمي جديد

من هو ملهم دونالد ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة ؟

د. دلال صائب عريقات

أسعار العملات

الأربعاء 19 مارس 2025 9:44 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.67

شراء 3.66

دينار / شيكل

بيع 5.18

شراء 5.16

يورو / شيكل

بيع 4.01

شراء 4.0

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%54

%46

(مجموع المصوتين 862)