أقلام وأراء
الأربعاء 27 نوفمبر 2024 9:02 صباحًا - بتوقيت القدس
صراع الأجيال.. من أسباب الضغوط النفسيّة والاضطرابات السلوكية
الصراع بين القديم والجديد، ظاهرة قديمة جديدة لم ولن تتوقف، فهي من الحتميات والمستلزمات الطبيعية، لإحداث التطور المنشود وفق نهج عمليتي التقييم والتقويم على أسس علمية مهنية.
اجتهد في القول إن إحدى مصادر إذكاء الضغوط النفسية والاضطرابات السلوكية بين الأفراد في مجتمعنا الفلسطيني، وعلى اختلاف الفئات العمرية والنوع الاجتماعي والخلفيات الثقافية ومستويات التعليم، هي حالة الصراع الضامر أحياناً والبائن أحياناً أخرى بين الأجيال، بهدف التغيير سعياً للتطوير .
تحتدم حدة الصراع هذا، حال ما يتعلق الأمر في الموروث العقائدي والثقافي والاجتماعي، كون جيل الشباب يعتبر وجود مثل ذلك عائقاً لإنجاز التطور والانعتاق من الحالة الحاضرة، في حين يعتقد الجيل الأكبر هذه المحاولات بمثابة تمرد، وعدم انصياع للعرف العقائدي والاجتماعي، ما يزيد الطين بلّة، تشابك وإقحام تناقضات عديدة أخرى وتناقضات عديدة بين وجهات النظر القديمة والجديدة.
واجه المجتمع الفلسطيني في الوطن المحتل، أزمات خطيرة هدّدت ولا تزال تهدد، نسيجه الاجتماعي، ونظامه القيّمي، وتهدد قيمه الجمالية والأخلاقية، وربما انسحبت على أهداف ومقدرات الشعب للخروج من حالة الاضطرابات السلوكية التي انتابته ولا تزال تنتابه، وبالتالي تؤثر على مستقبله. بمعنى آخر هي أزمة/ أزمات ناجمة عن تفاعل عدة عوامل منها ما هو قادم من خارج البناء الاجتماعي، ومنها ما هو انعكاس للواقع السياسي السيء، وما يرافقه من عنف ومصامات دموية. ولن تفوتنا الإشارة هنا إلى نمط التربية والثقافة الحزبية لبعض الفصائل السياسية، والتي تذكي الفئوية ونهج الإقصاء والتفرد، الأمر الذي يؤدي إلى تعميقها وصب الزيت على نارها، كما أن هناك عوامل من داخل البناء الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال، صراع العلاقات والأدوار بين مختلف الأجيال ومختلف فئات وقوى المجتمع.
لعل استمرار هذه الحالة السياسية، وما ينجم عنها من عنف وإرهاب منذ أعوام خلت، والعجز المشهود في وضع حد لها، قد عمّقت الأزمة/ الأزمات أكثر فأكثر، جراء التدهور الاقتصادي المتفاقم، وبلوغ الوضع المعيشي مدى من الصعوبة لم يبلغه من قبل، حيث ينتشر الفقر ويتسع نطاق الجهل والأمية جراء التخريب بعيد المدى على العملية التربوية التعليمية، ناهيك عن عدم كفاية مواءمة الخدمات الطبية والصحية المطلوبة بكل أنماطها، ولعل خدمات الصحة النفسية أبرزها، والتي لا تفي بأقل الاحتياجات .
نرى أزمة البناء المكتظ وعدم توفر الساحات، وغياب مرافق الترفيه في المواقع السكنية الحالية، وعدم تبني ثقافة تأمين مكتبات بيتية من قبل الأسرة، إذ تعمد غالبية الأسر إلى تأمين مرافق استقبال للضيوف واسعة، وأخذ القروض البنكية لشراء سيارة للعائلة، بدلاً من الاهتمام بإيجاد مصادر تثقيفية توعوية آمنة غير التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الأسرة، قاطبة فريسة سهلة للغزو الثقافي والذي قد يؤثر سلباً على القيم والأخلاق فتأخذ بالانحسار، إن لم يكن التردي، فتتفاقم الاضطرابات السلوكية، في ظل غياب رقابة الوالدين للمصادر الثقافية المتاحة داخل البيت، ما سيؤثر حتماً على بقية مكونات المجتمع وهياكله الأساسية والوسيطة والثانوية ذات العلاقة الوثيقة بالتنشئة الاجتماعية أو الضبط الاجتماعي.
هنا نكون عرضة لمزيد من الانهيار والتراجع بسبب ذلك، ولنا في التاريخ عبرة وخير شاهد، بدليل أن حضارات ومجتمعات عديدة انقرضت واختفت من الوجود لا بسبب الفقر، بل نتيجة للانهيار والتردي الأخلاقي، ولنستذكر هنا قول الشاعر "إنما الأمم هي الأخلاق إن بقيت وإن ذهبت ذهبوا"، وقبل ذلك تركيز جميع الديانات السماوية على أهمية الأخلاق كنهج حياتي، فعلى سبيل المثال ورد في القرآن الكريم ما يقارب الثلثين من التركيز على الأخلاق كممارسة، والثلث الأخير على الشعائر والعبادات، وكذلك الحال، ما تدعو إليه الديانة المسيحية، وفق ما ورد في الإنجيل المقدّس.
أحد المظاهر السلبية لحالة الصراع بين الأجيال حول سلطة القرار الاجتماعي، ما نشهده من صراع وتنافس (غير إيجابي) شديد لدرجة فرض المواقف والميل إلى التفرد في اتخاذ القرارات، ليس فقط داخل المؤسسات، بل وأيضاً وسط الأسرة الواحدة، الأمر الذي يتيح توفر التربة الخصبة والأجواء الملائمة لنهج التذمر ودوام التوتر وسط الأجيال الشابة، وخير مثال على ذلك: مواقف الدفع المسبق للمركبات والذي تم فرضه بالبرشوت على الشعب دون أن ترافق ذلك حملات توعوية سواء في المدرسة أو من خلال المؤسسات الرسمية والأهلية، وما نشهده من سلوكيات بعض الشبان على حواجز الإذلال أو حين مراجعة مؤسسات لاستكمال معاملة ضرورية ( بعيداً عن التعميم) جراء غياب الثقافة والوعي بالسلوك االصواب .
مثال آخر، هجوم الأجيال الشابة على جوانب مختلفة من أركان البناء الاجتماعي، هجوم على نظام القيم الاجتماعية، العادات والتقاليد، النظام التعليمي، الأسرة والوجهاء وقادة المجتمع المحلي، ومس مباشر بالأبنية الوسيطة كالجمعيات والاتحادات والمؤسسات المهنية وغيرها، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في حالات التنمر المجتمعي والاقتتال الداخلي، الأمر الذي قوّض فرص معززات واستدامة السلم الأهلي، وما نشهده من حالات الاندفاع الشبابي في ذروته خاصة هذه الآونة، ما يوجد اضطرابات سلوكية تتعارض مع مصالح وطبيعة النسيج الاجتماعي وضوابطه، الأمر الذي يعمّق من حالات الأزمات الاجتماعية، كما نشهد هذه الأيام .
ليس من باب المبالغة القول بأن هذا الجرح هو من أخطر ما يهدد ليس فقط النسيج الاجتماعي، بل وأيضاً الانضباط والاستقرار النفسي لدى جميع فئات المجتمع، وهذا يقودنا اإلى السؤال القديم الجديد: ما العمل إذن ؟
كثيرة هي الأسئلة والتحديات الخطرة أمام خبراء وعلماء النفس والاجتماع وأمام قادة الشعب السياسيين، بدءاً باتجاهات صراع الأجيال الدائر في الوطن المحتل، واتجاهات الأزمة داخل البناء الاجتماعي، وإلى أين ستقود؟ وما مدى تأثير هذه الأزمة على أهداف الشعب الفلسطيني ومستقبله؟ مطلوب البحث عن حلول من خلال تضافر الجهود للحد من تواصل مثل هذه الأزمات وإن أمكن القضاء عليها، وضرورة إيجاد بدائل تحافظ على النسيج الاجتماعي، وفي نفس الوقت تضمن نفض الغبار عن الفاسد، حلول تضمن بناء متكامل ومحاولة معرفة ما إذا كانت استعادة الهيبة للسلطات التقليدية، وليس على حساب أي طرف كان!!
أقول ذلك وفي ذهني الاعتقاد بأن الاتجاهات النفسية للشعب تجاه الواقع المأساوي الحالي، هي على النحو التالي:
* في البداية، كانت الناس مشاركة وجامحة للتغيير .
* في خضم الحدث بات البعض متفرجاً ثم أضحت الغالبية متفرجة، وكأن لسان حالها يقول " طلعت بعدت عني بسيطة" .
* لاحقا، أخذ البعض يتذمر ويهمس بأن ما يجري هو بمثابة مصدر خنق لحريته الشخصية، وكأنها شكل من أشكال العقوبة.
ان هذا التراجع في المشاعر والاتجاهات النفسية، له أسبابه الموضوعية التي لا ترد كلها للعامل الذاتي، بل ربما كان نصيب العوامل الخارجة عن إرادة الشعب هي صاحبة الحصة الأكبر في هذا التراجع، ولعل تشخيص ما يحدث على ساحة الميدان الاجتماعي، يساعدنا في هذا التراجع وبعض أسبابه .
ولسوف أحاول في العرض اللاحق تسليط الأضواء إلى أحد فروع الأنساق الاجتماعية في البناء الاجتماعي الفلسطيني خلال حقبات تاريخية متفاوتة، وبالذات على مجموعات الشبان المطاردين، وفئات الأسرى المحررين وأبناء العائلات الثكلى الذين اعتقد أننا بصمتنا تجاه قضاياهم ومعضلاتهم نساهم بغير قصد منا في العزلة المطبقة حولهم وتهميشهم، متناسين أن هذه الفئات، بالطبع، مسكونة بطاقات ثورية هائلة إذا ما أحسن استخدامها، بدلاً من تركها تتجه نحو التخريب. يتوجب توجيهها نحو مسار النضال الوطني والبناء وبالتالي تبدأ غالبية الاضطرابات السلوكية بالاختفاء والتلاشي إذا ما أحسنا التعامل معهم.
وأخيراً نقول: "اذا كان بيننا من هو معني بالمحافظة على النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتصويب العلاقات الاجتماعية، فهو مدعو للمشاركة في متابعة الموضوع والمساهمة بأي جهد ممكن، وأي جهد ستكون له آثاره الايجابية بسبب ندرة الاهتمام بالعمل في مجال الصحة النفسيّة والعمل الميدان الاجتماعي، إضافة إلى ضرورة إيلاء منهاج التربية الوطنية قسطاً وفيراً من محتوياته، على هذا الجانب الهام، مع التركيز على تكثيف العمل الجماعي لدفع نهج حل النزاعات بطرق سلمية ( نقترح هنا الرجوع إلى "استراتيجية السلحفاة في حل النزاعات – للكاتب) وتعزيز لغة الحوار كأسلوب حياة، وهما الركيزتان الأساسيتان في مجابهة العنف ( بكل أشكاله)، والحد منه إن لم يكن القضاء عليه.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
إرادة لبنان
حديث القدس
رغم الهدنة السراب مع لبنان.. كلنا نحو الشر المستطير
حمدي فراج
مبادرة فتحاوية
حمادة فراعنة
وتستمر الحرب على غزة!
حديث القدس
هل ستسود العدالة في فلسطين حقاً؟!
جمال زقوت
"العداء للسَاميّة "واحتكار "صورة الضحيّة" نحن العرب ساميّون بامتياز فلماذا نُتّهم بالعداء للسامية؟
المتوكل طه
لجنة إسناد أم تشكيل جديد يعمّق الانقسام؟
هاني المصري
يا رب أوقف شتاءك على غزة
بهاء رحال
احتدام الصراع الدولي
حمادة فراعنة
الشتاء.. فصل من المعاناة في غزة
حديث القدس
أي شرق نريد؟
إياد البرغوثي
مجرما حرب
بهاء رحال
ما الذي يعنيه قرار الجنائية الدولية بحق قادة دولة الاحتلال؟
راسم عبيدات
بانتظار الجهد العربي والإسلامي
أحمد رفيق عوض
خطوة على طريق الانتصار
حمادة فراعنة
التربية والتراث.. قوة الانتماء في مواجهة التحديات
د. سارة محمد الشماس
سيادة العراق ولبنان في خندق واحد
كريستين حنا نصر
إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين
سري القدوة
حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال
د. دلال صائب عريقات
الأكثر تعليقاً
ترمب يرشح طبيبة من أصل عربي لمنصب جراح عام الولايات المتحدة
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
الإمارات تكشف هوية المشتبه بهم بقتل الحاخام كوغان
"الجنائية" تتحرك أخيراً ضد الجُناة.. قِيَم العدالة في "ميزان العدالة"
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
ترامب يعين العنصري ضد العرب والمسلمين سيباستان غوركا مسؤولا عن مكافحة الإرهاب
أي شرق نريد؟
الأكثر قراءة
"الجنائية" تتحرك أخيراً ضد الجُناة.. قِيَم العدالة في "ميزان العدالة"
الحكومة الإسرائيلية توافق على قطع العلاقات مع صحيفة "هآرتس"
الفيتو في مجلس الأمن.. أمريكا حارسة مرمى شباكه ممزقة!
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
نتنياهو و"الليكود" يتربصان بغالانت لفصله من الحزب وإجباره على التقاعد
ترامب يعين العنصري ضد العرب والمسلمين سيباستان غوركا مسؤولا عن مكافحة الإرهاب
أي شرق نريد؟
أسعار العملات
الأربعاء 27 نوفمبر 2024 10:27 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.64
شراء 3.63
دينار / شيكل
بيع 5.15
شراء 5.12
يورو / شيكل
بيع 3.83
شراء 3.8
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%54
%46
(مجموع المصوتين 120)
شارك برأيك
صراع الأجيال.. من أسباب الضغوط النفسيّة والاضطرابات السلوكية