أقلام وأراء
الخميس 13 يوليو 2023 10:27 صباحًا - بتوقيت القدس
نظرة تأملية حول التعليم التحرري
عندما نتحدث عن منظومة التّعليم فإننا ندرك تماماً أن هذا المفهوم يشكّل منظومة حيّة تعد من أهم مقوّمات الدّولة ، بل شرطاً أساسياً لنهوض المجتمعات وتطورها سياسياً واقتصادياً وثقافياً ونيل الحُريّات للأفراد والجماعات ، إذ ترتبط مؤشرات التّنمية البشرية واحترام حقوق الانسان وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي لأي دولة بشكل كبير بمدى التقدم في المجال التعليمي.
وقد ارتبط مفهوم التّعليم التحرّري بالمفكّر البرازيلي باولو فريري (1921-1997) ، علماً بأن التعليم التحــرّري سبقه فكراً وممارسة بمئات وأحياناً آلاف السنين، فالتّعليم بدأ تحرّرياً عندما لم يكن مرتبطاً بالمؤسسة ولا بالأيدولوجيا أو بمصلحة قوى مهيمنة ، بل ارتبط بحاجة الإنسان إلى المعرفة. فالتّعليــم في تشكّلاته البدائية هو أصلاً تعليم تحرّري، دون الحاجة إلى تسميته بهذا الاسم ، لكن حين أدرك الإنسان أن التعليم في ظلّ الدولة الحديثة يستلب الإنسان ويقهره، أدرك الحاجة إلى التعليم المضاد وسمّاه التعليم التحرري.
فالمتمعّن بقراءة كتاب باولو فيريري الشّهير(تعليم المقهورين) والمتأمّل في ثناياه يُدرك مدى خبرته التي اكتسبها في مجال التّعليم والسّياسة والحياة ، وملاحظاته نتيجة معاناته في سنواته من ظروف نفسية وسياسية قاهرة جعلته يُلقي بظلاله مفاهيماً ومبادئ تشكّل قاعدة يستند عليها في نشر الوعي الثقافيّ والتعليميّ في المجتمعات المتنوّعة .
إذ إن الإخلال بالمنظومة التعليميّة سوف يكون حائلاً دون تحقيق الكامل للتحرّر ، ذلك لأن المقهورين إذا لم يشعروا بإنسانتيّهم ووعيهم الثّقــافـي وحسّهم الوطنيّ لن يستطيعوا التّعامل مع بعضهم البعض ، بل لن يكون هنالك انسجاماً موحدّاً بينهم حول الفكرة الحقيقية لمعنى للتحرّر، لذا لا بدّ من أن يدافعوا عن تعليمهم وعن وإنسانيتهم وإنسانية قاهريهم في نفس الوقت .
نعم ، فالسعي الحقيقي نحو التّعلم هو الذي يتجسّد في محاربة وتحطيم الأسباب التي تدمّر في بيتها ظواهر الجهل والعلم الزائف ، فهذا النوع من العلم غير الحقيقي سوف يغلّ أيادي الخائفين والمحطمين والمنبوذين المرتعشة ، في حين أن العلم الحقيقي هو الذي يجعل تلك الأيادي تمتد طويلاً ، لا من أجل التسوّل ، بل من أجل مزيداً من العمل الإنسانيّ الوطنيّ الموعود بتغيير الواقع المأساوي نحو التحرّر. ذلك أن فكرة التعليم التحرّري والنضال العلمي من أجل استعادة إنسانية المقهورين هو في واقعه امتلاك لناحية القوة والإرادة الحقيقية ، كذلك فإن التعليم أساسه الاحترام الذي يقف في كل الظروف نقيض اللاأخلاق والشّعور بالعنف والكراهية التي تعتمل بها قلوب القاهرين.
هذا ما ذكره فيراري حين أبدى من تخوّفه خلال مرحلة نضاله مع المقهورين بدلاً من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريّتهم فإنّهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين، وهذا المظهر هو انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلّوا يعيشون فيه، فقد حلم هؤلاء أن يصبحوا رجالاً أحراراً متعلمين ولكن صورة الرّجل بقيت في مخيّلتهم هي صورة القاهر، لذا من الخطأ أن تحشو عقول المقهورين باعتقادات زائفة في التعلّم نحو التحرّر، فطريق الصّواب للقيادة الحقيقية في التّعامل مع المقهورين هي طريقة الوعي والعمل والحوار واحترام نقد الطرف الآخر ورأيه والصّدق والثّقة.
كذلك لا بدّ للمقهورين أنفسهم والذين قبلوا فيها تحمّل مسؤولية النّضال من أجل استعادة إنسانيتهم وكرامتهم أن يتسموا بالإنسانية ، وأن يتسلّحوا بالعلم وأن يدافعوا عنه ، ذلك لأن نضالهم لا ينتهي فقط عند تحرير أنفسهم من غائلة الجوع ، ولا يكون بالشّعارات والأنظمة أو الاستغلال ، فهذه كلّها من أدوات السّيطرة غير الأخلاقية ، ولا يمكن أن تصبح بين عشيّة وضُحاها من أدوات النّضال واستعادة كرامة الإنسان ، فالوسيلة الوحيدة لتحقيق تعليماً محرّراً هي التّعليم ذو الصبغة الانسانية القائمة على مبادئ الاخلاق وحرية التعبير والذي تقيم فيه القيادة نوعاً من الحوار الدائم مع المقهورين ، فمن خلال الحوار لا يمكن أن تكون طريقة التعليم وسيلة يسيطر بها الأساتذة (القيــادة) على التلاميذ (المقهورين) لأن هذه الطريقة تعبر عن ضمير المتعلمين أنفسهم.
وهنا وفي السياق ذاته يمكن أن نشير إلى النهج الذي وضعه فريري حول التعليم ، فقد وضع أساساً مهماً في عملية النظام التعليمي والذي يرتكز على الأخلاق والاحترام أولاً قبل أي شيء فالتعليم الذي يقوم على التّواضع والثّقـــة سيُكرّس العلاقة الأفقية بين المعلّمين ، وكذلك المتعلمين ، ذلك لأن الثقـــة في كل الظروف هي وليدة الصّدق الذي يُبديه المعلّم، فالمعلّم الإنسانيّ الصّادق يصل بالمتعلّمين إلى المستوى الذي يتّفــق مع أهداف تلاميذه الذين يرغبون في شغل أنفسهم بالتفكير النّقدي الذي يحقّق إنسانيتــــهم، فهذا المعلّم الذي يثـــق ثقـــة عظيمة بالرّجال وقدراتـــهم في الإبداع لن يقوم بدور المتسلّط ، بل سيقوم بدور المشارك مع تلاميذه .
وعلى وجه العموم فإن المسألة المهمة في التعليم الذي يستهدف الحرّية هو أن يشعر الرجال (التلاميـــذ) فيه كأساتذتهم ، أي يسمعون صوت أنفسهم وصوت زملائهم في مسائل تختص بالعالم الذين يعيشون فيه ، فهذا النّوع من التّعليم ينطلق من قناعة فحــواها أن المبدأ التّعليمي لا يكون تعليمـــاً ما لم يتخذ من التّحرّر أساســـاً له ، فهو يقدّم أسلــوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورين أنفسهم بصورة إيجابية في العملية التعليمية.
والنّاظر لواقع الحياة المُعاصر يرى أن التّعليم العربيّ يعيش في أزمة قد تكون إحــدى الأسباب المُهمّة لكلّ الأزمــــات الأخرى السّياسيـــة والاقتصاديــــة والاجتماعيــــة.
ولأن لكل مجتمع في عصرنا الحالي ثقافتـه الخاصـة به، التي تنظم حركتـه، وُتحدد قيمه ومعتقداته وعلاقاته، وولاء وانتماء أفراده، فمن المعروف أن أهم ما يُكوِّن ثقافة المجتمع الجوانب الاجتماعية المتمثلة في القيم، والمعتقدات، والعادات، ونمط العيش، وممارسات الحياة الاجتماعية، فالمجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه وتقاليده وأعرافه، سواء كانت هذه العادات والتقاليد أمراضاً اجتماعية، أم قيماً وتقاليداً إيجابية؛ فالمجتمع الذي يتمسك أفراده بمصالحهم الضيقة؛ فإن ذلك يؤثِّر في سلوكهم وأخلاقهم والذي سينعكس تماماً على نمط العملية التعليمية.
ولا ننسى دور النّظام التعليمي في المجتمع وفي تكوين القيم الأخلاقية وتنمية فكرة التّعلم التحرّري لدى الأفراد، وهذا ما انتبه إليه مبكرّاً باولو فريري الذي دعا إلى اعتماد نهج التعليم الحواري ومشاركة المتعلم في العملية التعليمية بدلاً من التعليم البنكيّ أو اللّاحواري، الذي يتعامل مع المتعلّم كوحدة صمّاء وسلبية وفاقدة الفاعلية ، إذ ركّز فريري على أهمية تحقق الفاعلية بممارسة المتعلمين التجربة النّضالية والتحرّرية بدلاً من تعلّمها فحسب ، وهو ما يؤدي إلى شقّ الطّريق أمام تحرير الطلبة لذواتهم، ويهيئهم لتغيير الواقع والمشاركة في إعادة تشكيله، بما يحقق بدوره عملية التّحرير الجماعي لأفراد المجتمع.
على أي حال لا بدّ من القول بأنّنا اليوم بحاجة إلى إعداد الجيل الذي يتعلم كيف يتعلم، وإلى الجيل الذي يبحث ويحلّل ويقارن ويستنتج ، وإلى الجيل الذي ينتقد ويعدّل ويقترح ويضيف، إلى السّيل المتدفق من المعرفة، وإلى الجيل الذي يكون له تفكيره المستقل، دون اعوجاج أو تطرّف، إلى الجيل القادر على إدارة الأزمات سياسية كانت أو اقتصادية، إلى الجيل القادر على الإبداع، والتفكير، والابتكار، والتطوير، وإلى الجيل الذي يهتم بالجانب الرّوحي، والفكري، والمهني، ويشارك في البناء والإصلاح، في مختلف المستويات، المجتمعيّة والوطنيّة والعالميّة، وعلى مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعل الرسالة الأقوى التي ينبغي التذكير بها هنا هي ضرورة تكاتف جميع مؤسسات الدولة لمواجهة التحديات التي تواجه العملية التعليمية والتربوية ، وتبنّي فلسفة تعليمية واضحة تتكامل فيها مختلف آليات العمل فــــي جميع المستويات التعليمية ، بحيث تجسّد الدّولة خلال هذه الفلسفة منظوراً تعليميّاً مُتحرّراً نابعــاً من ثقافتها وقيمها وعاداتها، ويساهم في تطوير العملية التعليمية ويحقق أهدافنا المرجوة نحو تعليم تحرّريّ أفضل .
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
سيادة العراق ولبنان في خندق واحد
كريستين حنا نصر
إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين
سري القدوة
حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال
د. دلال صائب عريقات
سموتريتش
بهاء رحال
مبادرة حمساوية
حمادة فراعنة
Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة
بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي
التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً
بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة
أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي
بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
ويسألونك...؟
ابراهيم ملحم
الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية
منير الغول
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
"الجنائية" تتحرك أخيراً ضد الجُناة.. قِيَم العدالة في "ميزان العدالة"
واشنطن ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية بإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت
نيويورك تايمز تكشف تفاصيل اتفاق وشيك بين إسرائيل ولبنان
الأكثر قراءة
نتنياهو و"الليكود" يتربصان بغالانت لفصله من الحزب وإجباره على التقاعد
لائحة اتهام إسرائيلية ضد 3 فلسطينيين بزعم التخطيط لاغتيال بن غفير ونجله
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
دينار / شيكل
بيع 5.24
شراء 5.22
يورو / شيكل
بيع 3.85
شراء 3.83
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 93)
شارك برأيك
نظرة تأملية حول التعليم التحرري