Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الأحد 21 مايو 2023 10:36 صباحًا - بتوقيت القدس

الخبرة والنمو... وجهان لعملة واحدة هي التربية…بل هي الحياة

انطلق جون ديوي الذي عاش قرابة قرن من الزمن (1859-1952 م)، بفلسفته إلى كل مكان في العالم ليؤكد أن الخبرة والنمو وجهان لعملة واحدة هي التربية، وأن التربية ليست التحضير للحياة كما هو متداول، بل هي الحياة ذاتها،Education is not preparation for life; education is life itself . وتمثل الأسرة، والمدرسة والمجتمع _عادةً_ مصادر تشكل خبرة الأفراد، وموطن نموهم، فالحياة هي التي تصنع الخبرة وتوجه النمو، والحياة بمكوناتها السابقة واللاحقة ترسم البيئة الثقافية والنفسية والاجتماعية التي تتغذى عليها الخبرة، ووفقاً لها يحدث النمو، والجدير ذكره أن العقل في هذا السياق يمثل الأداة التي تنمي هذه الخبرة وتطورها، وتوجه هذا النمو، وليس هو الوعاء الذي تخزن فيه المعارف وتحفظ لحين غير معلوم.


هكذا رسم جون ديوي لوحته الفلسفية التربوية الرائعة، التي جسدت واقع الحال الإنساني، وحققت قبولاً، بل رواجاً جماهيرياً منقطع النظير، رغم أن المنهج الإسلامي في التربية _ أو كما أطلق عليه ديوي_ "التربية المحمدية" سبقته بمئات السنين في تبني هذه الفلسفة وطرحها كمنهج حياة، فالخبرة التي أكد عليها ديوي تتطلب بيئة حاضنة، وسياقا واقعيا للممارسة، والتطبيق العملي والتجريب، بما يضمن حل المشكلات والانتقال لمراحل أخرى كشكل من أشكال النمو، وتعتبر الأسرة هي الحاضنة الأولى لهذه الخيرة ولذلك النمو ومن ثم للمدرسة وللمجتمع ككل.


ذاك تماماَ هو فحوى الفكرة التي تعزز تصورا واضحا مفاده؛ أن الخبرة والنمو لا يمكن أن يتوقفا ولا بأي حال من الأحوال، لكن معيار تحققهما بشكل سوي يختلف؛ باختلاف مقدار المشاركة المجتمعية الموجهة والضابطة لهما على حد سواء، والتي تلبي احتياجات الفرد في سياق واقعه الحالي ومستقبله المتوقع، وهنا تلعب المدرسة الدور الأهم إذ إنها تعكس الواقع الاجتماعي بشكل مصغر، وفيها يمكن ضبط الفرد وتوجيهه، وبناء وتوظيف خبراته لصناعة غده وليس بالضرورة مستقبله البعيد.


وحتى لا تبقى المدرسة _ باعتبارها صورة مصغرة عن المجتمع،_ بمنأى عن المستجدات والتطورات المتسارعة في الحياة، ولكي تقوم بدورها الذي يجسد المفهوم المراد فعلياً للتربية كما يراها ديوي، نادى كثيرون من أصحاب فلسفة ديوي في العصر الحديث بتبني أساليب مختلفة وحديثة مثل أسلوب (الصف المفتوح) Open Classroom ، وأسلوب التعلم بالمشروع، والتعلم بالعمل والممارسة والتعلم باللعب، وكثير غيرها من نظريات الإصلاح التربوي اعتمدت هذه الفلسفة محوراً لها.


يترتب على ما سبق وجوب تغيير سياسات ومنهجيات عمل المؤسسات التعليمية والتربوية وعلى رأسها الجامعات التي تعنى بإعداد المعلمين، كأن تتبنى مدارس تطبيقية تجريبية تابعة لها، لتطبيق تعليم منظم ومراقب ينفذه المعلمون في سياق واقعي قابل للمتابعة الحقيقية والقياس والتعديل والتطوير، حتى يخرج المعلم إلى ميدان العمل بخبرات وممارسات كفؤه وفعالة، تحقق مفهوم وأهداف التربية المرتبطة بتوجيه النمو والخبرة معاً لبناء شخصية الفرد.


أما المدرسة، والتي ترسم الطريق إلى المستقبل على أساس أنها كيان مجتمعي ونفسي وليس معرفيا فحسب، فيجدر أن يتحول دورها _في ظل مفهوم النمو والخبرة والذي طرحه ديوي على أنه تربية بمعنى الحياة_ من التلقين والحشو وتقييد الفكر، إلى خلق سياق حياتي يحاكي المجتمع الواقعي، ويجسد مشكلات الحياة وتحدياتها، ويتيح للمتعلمين فرص ابتكار الحلول وتجريبها والتمييز بينها، بهدف بناء الخبرة لا مراكمة المعرفة، وتوجيه نموهم بشكل يجعلهم قادرين على التكيف مع الحياة ومواجهة مستجداتها والتغلب على تحدياتها.


وعليه؛ يكون دور المعلم _ وفقاً لفلسفة جون ديوي_ الكشف عن الاهتمامات والميول وتعزيزها، بل وربما يبدأ دور المعلم قبل ذلك، من خلال مساعدة المتعلم على التعرف إلى ذاته واهتماماته وتشخيصها ومن ثم الكشف عنها، ليسهل تنميتها وتطويرها لتصبح رافداَ لبناء الشخصية القادرة على خوض غمار المستقبل، بشكل أفضل حتى من المعلم نفسه.


يشير كل ما سبق إلى أن الأهداف التعليمية ليست ثابتة، بل متغيرة ومتطورة وفقاً للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ووفقاً للاحتياجات والخصائص النمائية المتغيرة نتيجة النمو والخبرة المتحصلة، والمراد تهذيبها وتنظيمها وتنميتها، فدور التربية هو إعداد المتعلم ليكون قادرا على الحياة في واقع قريب ومستقبل متوقع، ودورها كذلك أن تخدم المتعلم يوماً بيوم في واقعه قبل مستقبله، وهي تحاكي المجتمع في أهدافه وسلوكه وتطلعاته، ودورها الأهم هو غرس المهارات لا تكديس المعلومات، ومحاكاة الواقع لا الانغماس في الماضي، وانتظار المستقبل، وتعزيز قدرة ومهارة الأفراد على الانخراط في المجتمع والتفاعل معه بشكل إيجابي متوازن قائم على مهارة حل المشكلات بشكل رشيد وممنهج.


ولكي تتحصل الخبرة بشكل حقيقي وراسخ؛ لتشكل النمو السوي الفعلي المطلوب، أكد جون ديوي على قضيتين، الأولى: تفرد المدرسة لتقوم بدور البيئة الاجتماعية المصغرة الحاضنة للفرد؛ الضابطة لسلوكه والموجهة لثقافته. والثانية: دور التربية الذي يجب أن يتحول من التركيز على الجانب النظري المجرد لتعليم القيم والمثل والأخلاق، إلى الاهتمام الحثيث بتحويلها الى تطبيق حقيقي يعكس نتائج مادية ملموسة سلوكية من خلال الممارسة والأداءات اليومية للأفراد، وتعزيز قدرتهم على تكوين مجتمع ديمقراطي يواكب حل المشكلات أولاً بأول في مسيرته للانتقال للمستقبل بأمان.


وتبقى الخبرة بمعيّة النمو، عنصرين حاسمين لشخصية الإنسان من خلال الحياة والتربية، منذ ولادته حتى وفاته، دون اكتراث بعمر أو زمن، أو صحة أو مرض، أو غنى أو فقر ، أو أي متغير يطرأ على الأفراد، فلا تتوقف الحياة ولا تتعثر التربية، إلا أنهما قد يحققان الأهداف المرجوة كما وضعت، أو أخرى غير ما أريد لها أن تكون.


وقد يتيح العنصران_ الخبرة والتربية _ تحقيق معايير التقدم والتفوق كيفما رسمت وصممت، وقد ينمو الفرد وتتشكل خبراته وشخصيته بشكل لا يحقق أيّا من هذه المعايير، فالخبرة والنمو تحصيل أكيد للتربية والحياة، فلنجعلها أداة تغيير للواقع ومرتكزا لصناعة المستقبل كما نتمنى أن يكون لا كما يمكن أن يكون، فإحداث الفارق وتجاوز ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون لا يتأتى دون توليفة تحقق الدمج الواعي بين هذين العنصرين، لتكون التربية أداة تغيير بالمعنى الحقيقي.

دلالات

شارك برأيك

الخبرة والنمو... وجهان لعملة واحدة هي التربية…بل هي الحياة

المزيد في أقلام وأراء

سيادة العراق ولبنان في خندق واحد

كريستين حنا نصر

إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين

حديث القدس

توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين

سري القدوة

حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال

د. دلال صائب عريقات

سموتريتش

بهاء رحال

مبادرة حمساوية

حمادة فراعنة

Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة

بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي

التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً

بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة

أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي

بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي

ويسألونك...؟

ابراهيم ملحم

الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية

منير الغول

ترامب المُقامر بِحُلته السياسية

آمنة مضر النواتي

نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي

حديث القدس

مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً

جواد العناني

سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن

أسعد عبد الرحمن

جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية

مروان أميل طوباسي

الضـم ليس قـدراً !!

نبهان خريشة

دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة

معروف الرفاعي

الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا

حديث القدس

من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها

أحمد لطفي شاهين

أسعار العملات

السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.7

شراء 3.69

دينار / شيكل

بيع 5.24

شراء 5.22

يورو / شيكل

بيع 3.85

شراء 3.83

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%53

%47

(مجموع المصوتين 93)