عندما تتحول الديمقراطية في دولة الاحتلال -التي تفترض في ذاتها أنها ديمقراطية وتحمل بين ثناياها قيماً إنسانية غربية- من قيمة عليا يتجدد المجتمع وفقها ويُبقي الدولة في مصاف الأمم العليا، إلى ديمقراطية تقضم أصابعها استناداً لممارسات وسلوكيات تفرضها رغبة من يرى في هذه الديمقراطية آلية لتخفيف أهدافه العنصرية والاستعمارية، لا قيمة إنسانية قد يتطوَّر من خلالها، فقد قال (ميخا غوتمن) في كتابه «مصيدة 67» بأن الصهيونية الدينية تحولت باتجاه الدين، بعدما فسَّر (تسفي كول) الأحداث التاريخية التي مرت على اليهود بأنها خطة إلهية، والخلاص وفقاً لهذا التفسير السيطرة على الأرض، وهي مرحلة متقدمة للخلاص الإلهي.
هذه الصهيونية الدينية ذاتها اليوم تفسِّر وتصوغ قيم الديمقراطية كما يفهمونها، وكما تلبي رغباتهم الاستعمارية بعيداً عن قيم الديمقراطية وركائزها الأساسية. فالديمقراطية في إسرائيل تسلِّم منظومة قيمها -فيما يتعلّق بالقانون والنظام- ليدِ أبرز كاتبي النظام ومخترقي القانون، فيما يحمل إرثاً قديماً مملوءاً بالتجاوزات والاختراقات القانونية، وهو محامي دفاع عن كل المتطرفين الداعين لتغيير قواعد هذه الديمقراطية (إيتمار بن غفير)، رئيس حزب قوة يهودية ووزير الأمن القومي عن كتلة الصهيونية الدينية.
وهذه الديمقراطية أيضاً تسلم منظومة قيمها الاجتماعية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ليد (أفي معوز) رئيس حزب (نوعم)، وهو عضو كنيست من الصهيونية الدينية، ولا يرى حتى هذه اللحظة المرأة شريكاً في المجتمع، ويرى فرض قيم دينية قومية متطرفة على أنظمة التعلم. ومرةً أخرى تسلم هذه الديمقراطية منظومة قيمها فيما يتعلق بأولوياتها الوطنية ليد وزير المالية رئيس الكتلة البرلمانية للصهيونية الدينية (بتيسليل سموترتش)، ليضع على رأس الأولويات الوطنية لدولة الاحتلال - الاستيطانَ في الضفة الغربية. ما هي هذه الديمقراطية؟ وما هي نوعية القيم التي تحملها؟ ووفقاً لأي صيغ يمكن لها أن تتطور وتنمو؟
لا غرابة في ذلك، فدولة الاحتلال آخذة في التحول بسلوك –وكنِتاج- تحكم هؤلاء في ديمقراطيتها باتجاه إنهاء فكرة ديمقراطية إسرائيل ويهوديتها، بحيث تُعمِّق الاستيطان وتُنهي حل الدولتين من جهة، وتضرب قيم الديمقراطية، وتحوِّل هذه الدولة لدولة دينية بقيم قومية خاصة، فقط بمن يؤمن بأيديولوجيتها، وتستثني منها كل من يعارضها، وبهذا تكون قد بدأت في نسف القواعد التي أسَّسَتها ونادت بها أصلاً حكومات اليمين في إسرائيل منذ انقلاب عام 1977، وعلى وجه الخصوص حكومات بيغن وشارون ونتنياهو.
فالأول قال بأن هناك قضاة في القدس، في إشارة إلى سيادة القانون والحفاظ على الدولة كدولة ديمقراطية. والثاني انسحب من قطاع غزة ووضع تصورات للانفصال عن الفلسطينيين للحفاظ على ديمقراطية ويهودية الدولة من وجهة نظره. والأخير قال بوجوب تحقيق حل الدولتين كتسوية للصراع، وهو اليوم ينفي كل ما تحدَّد من قواعد، وينزاح مع الصهيونية الدينية باتجاه تغيير كل قيم الديمقراطية، وينفي معها حق الفلسطينيين في دولة لهم.
التغيرات في ممارسة اللعبة السياسية لا تحدث بين عشيّة وضحاها، فالحالة التي وصلت إليها دولة الاحتلال المسماة جزافاً (دولة ديمقراطية) أصبحت تتحدد القيم فيها على يد الصهيونية الدينية منذ السبعينيات في القرن الماضي، بعدما رأت الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية ليس رمزاً للخلاص بل سبباً أساسياً ومركزياً فيه، وتعميقاً للاحتلال ونفياً للفلسطينيين كشعب. وبهذا فإن الديمقراطية التي ترى بغير عينيها هي ديمقراطية يجب إنهاؤها، ولهذا فإن تبدُّل القيم الديمقراطية والخلاص أحداثٌ لا يجب انتظارها من وجهة نظرهم، بل يجب السعي إليها، فكيف لهذه الديمقراطية أن تستمر بهذه الرؤية دونما قضم أصابعها؟
وما نشهده اليوم من احتجاجات ومحاولات لتغيير أنظمة الحكم والقضاء في دولة الاحتلال يُنذر بمواجهة حتمية بين من يحملون قيم الصهيونية الدينية ومن يعارضونها، والصراع سيستمر في داخل هذه الدولة حتى ينقلب طرف على طرف بحيث تتحدد هذه الرؤية في هذه الدولة. إمّا أن تُعلي من شأن القيم الديمقراطية العليا، وإما أن تُعلي من شأن القيم الصهيونية الدينية لاستمرار الاستيطان كخلاص إلهي، وتغيير القيم كسعي لهذا الخلاص، وفي الحالتين تخسر هذه الديمقراطية أصابعها وتأكل أطرافها وتنتهي قريباً.
كما يقول ميكافيلي: "إذا كان من المحتمل أن الحظ يتحكم في نصف أعمالنا، فإنه يترك لنا حُرية التصرف في النصف الآخر منها تقريباً". هذا قول فيه درجة عالية من الواقعية السياسية، فالمراقب والمتتبِّع للظروف والأحداث التاريخية التي مرَّت بها قضيتنا الفلسطينية يرى أن الحظ لعِبَ ضد مصلحتنا وسار باتجاه مصلحة أعدائنا في أغلب المفاصل المهمة، ولكنه مع ذلك ترك لنا نصفه الأهم، فإن أحسَنّا التصرف، واستعدنا المبادرة، استناداً لمتغيرات الواقع الجديدة في دولة الاحتلال -التي تنهار فيها بالتدريج منظومة القيم الديمقراطية بفعل من يقود النظام السياسي فيها ويتحكم بديمقراطيتها- ونسعى مقابل ذلك تجاه استعادة وحدتنا الوطنية، لتتشكل على قواعدها جبهة وطنية عريضة بأهداف محددة لا تتعارض مع القيم الديمقراطية العالمية، وتتوافق مع الشرعية الدولية التي تلبي جزءاً من حقوقنا، بحيث نضمن من خلالها حقَّ تقرير مصيرنا كباقي شعوب الأرض، ونقصِّر عُمْر هذا الاحتلال الذي يسير بسرعة بهذه الدولة إلى معاكسة كل قيم الإنسانية الحديثة، ويقترب بذلك من حدود سقوطها الفعليّ بعدما تحقَّق سقوطها القيَمي كدولة تدّعي ليلاً ونهاراً أنها تشترك مع العالم في قيم إنسانية ديمقراطية عُليا.
شارك برأيك
ديمقراطية إسرائيل تقضم أصابعها