أقلام وأراء

الأحد 05 مارس 2023 11:30 صباحًا - بتوقيت القدس

الشرق والنظام العالمي "العتيد"

 بقلم:الدكتور اياد البرغوثي


استمر النظام العالمي الذي تأسس في اعقاب انتصار الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية، حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في اواخر العام 1991. تميز ذلك النظام بثنائية القطبية، وتأسيس المعسكرين الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، الذين أسسا حلفين عسكريين، حلف شمال الأطلسي (1949) وحلف وارسو (1955).
لعب وجود الأسلحة النووية لدى الطرفين، دورا حاسما في لجم الحروب المباشرة بينهما، فكانت الحرب الباردة التي تمثلت بالصراع الايديولوجي والسياسي والاقتصادي بين المعسكرين، وبحروب وصراعات بالوكالة على اراضي الغير، بما فيها البلدان العربية ودول الشرق "الاسلامي".
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي انفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم، وشعرت ان ذلك من "حقها" وحدها، وعملت على ان يكون ذلك الى الأبد... ذلك الشعور لم يأت فقط من تفوقها على منافسيها وامتلاكها لمختلف عناصر القوة، بل أيضا، وربما أساسا وهو الأخطر، من تفوقها "العنصري" (الانجلو ساكسوني) على الآخرين، وهذا يفسر جزءا كبيرا من علاقتها "الخاصة" بالصهيونية، وواكبه التنظير "لنهاية التاريخ" وصراع الحضارات.
تصنع الامبريالية العنصرية بالتأكيد، لكن في حالة الولايات المتحدة (والصهيونية) صنعت العنصرية الامبريالية، أو كانت من أهم دوافعها، وخطورة ذلك أن الامبريالية في هذه الحالة، ليست مرتبطة في ذهن ممارسيها بميزان القوى "الأرضي"، بل بمعطى "سماوي" يعطيها الحق الدائم بالقيادة، ويمنحها شرعية استخدام كل الوسائل للحفاظ عليها.
امريكا وحيدة في قيادة العالم
تميزت الفترة التي قادت فيها الولايات المتحدة بأنها من اسوأ ما مر على العالم ربما عبر التاريخ. لم يكن ذلك فقط على المستوى السياسي والأمني، بل ايضا الاقتصادي والبيئي والصحي. ففي سياق سعي الولايات المتحدة لمحو كل رموز النظام الثنائي القطبية، دولا وأنظمة وفكرا وشخوصا، لم تشهد البشرية هذا الكم من العنف والفوضى "عموديا وأفقيا" كما شهد في العقود الثلاث الأخيرة تحت قيادة امريكا وبإرادتها، فلم تكتف بتفكيك الإتحاد السوفياتي والهيمنة على دوله، بل ذهبت لتفكيك روسيا نفسها، واختلقت فيها الكثير من المشاكل، وكذلك في مختلف مناطق العالم.
كانت فلسفة القيادة الأمريكية للعالم، ليس الحفاظ على استمرار التفوق بتنمية الإنجاز بقدر ما هو العمل على تحطيم الآخر.. هذا تطلب المزيد من الاستبداد واستغلال الآخرين.
كما اتسمت سياسة الولايات المتحدة بالتنمر، ليس فقط على "اعدائها"، بل على حلفائها أيضا. برز ذلك في الاقتصاد، عندما فرضت على استراليا شراء غواصاتها بدل الغواصات الفرنسية، وضحت بالاتحاد الأوروبي وأقحمته في الحرب الاوكرانية، وأجبرته على الذهاب بعيدا في عدائه لسوريا رغم مصالحه الحيوية معها، وتجسست على رؤساء أهم دوله (المانيا وفرنسا)
وفي الشرق غزت أفغانستان، واحتلت العراق، ورعت الإرهاب والفوضى الخلاقة التي دمرت ليبيا وسوريا واليمن، وحاصرت ايران ولبنان، واستمرت في دعمها المطلق لإسرائيل، والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني. كما استمرت في ابتزاز حلفائها، وفرض الأتاوات عليهم، وتكليفهم "بمهمات" ليست في صالحهم، وليسوا أهلا لها بالأساس.
كما واستمر تدخلها في كل بقاع العالم، من خلال سياسة العقوبات التي تفرضها على من تشاء وكيفما تشاء، في كوريا وفي كوبا وفنزويلا وكثير من بلدان امريكا اللاتينية، التي كثيرا ما تدخلت للإطاحة ببعض انظمتها التي لا تروق لها.
باختصار، فإن أهم ما ميز نظام القطب الواحد الأمريكي، هو تراجع في دور المؤسسات الدولية وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، وفرض مزيد من الهيمنة على كثير من دول العالم، ومعاناة واذلال أكثر للشعوب، ومزيد من الضحايا وفقدان الأمل، وتصاعد في العنصرية، وتراجع في الأخلاق والقيم، وهذا بالطبع لم يرق لكثير من الدول، ولمعظم الشعوب بما فيها نسبة متزايدة من الشعب الأمريكي.
تشبثت امريكا بنظام الاحادية القطبية الذي تتزعمه، رغم عدم رضى معظم دول العالم وشعوبه عن ذلك، بما فيها بعض حلفائها، فرفعت شعار أمريكا أولا في عهد ترامب، مع أن الممارسة كانت تشير الى أن حقيقة الشعار تعني اسرائيل وامريكا أولا، واستعدت للذهاب بعيدا من أجل التمسك بالانفراد في تزعم العالم، فارتكبت من أجل ذلك الفظائع بما فيها موقفها تجاه الحرب الاوكرانية، وايصالها العالم الى حافة الحرب العالمية الثالثة، واستفزاز الصين في ما يتعلق بجزيرة تايوان. لم تعمل الولايات المتحدة كأقوى قوة في العالم، وقائدة للنظام الدولي الأحادي القطب على إدارة العالم وترتيبه، بل عملت على تخريبه للسيطرة عليه.
أكثر الدول رفضا لنظام القطبية الأحادية كانت روسيا، التي تحدث رئيسها علنا حول التوجه السلبي للولايات المتحدة تجاهها، وذلك بضم جمهوريات البلطيق السوفياتية الثلاث لحلف شمال الأطلسي، اضافة الى معظم دول حلف وارسو السابق، كما تحدث عن ضرورة تغيير النظام الدولي الذي لم يعد معقولا ولا مقبولا أن يبقى مسيطرا عليه من قطب واحد، وقال ان روسيا ستعمل على تأسيس نظام متعدد الأقطاب، كان ذلك في مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007 عندما قال أن "روسيا قد عادت".
عانت الصين ايضا من نظام القطب الواحد، وهي تدرك كقوة اقتصادية كبرى في العالم، أنها مستهدفة من قبل الولايات المتحدة. وهي وإن كانت تستخدم الدبلوماسية الهادئة ذات النفس الطويل، إلا أنها مستهدفة من قبل الولايات المتحدة، من أجل إعاقة تطورها، والابقاء على نظام الهيمنة الأمريكية على بقية العالم.
دول أخرى مهمة، أبدت تأييدها لتغيير النظام الحالي لإدارة العالم الذي تتفرد فيه الولايات المتحدة بكل شيء؛ ايران التي تعاني من حصار أمريكي منذ ما يزيد عن الأربعة عقود، ودول في أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا وكوبا والبرازيل، والهند، وحتى دول حليفة للولايات المتحدة مثل تركيا.
مواصفات النظام العالمي المطلوب
اكتشفت غالبية دول العالم وشعوبه، مدى الضرر والخطورة على البشرية من تحكم قوة واحدة كأمريكا في العالم، لذلك كان لا بد من التفكير في ايجاد نظام عالمي آخر، يفترض أن يكون أكثر احتراما للإنسان، وأكثر قدرة على توفير الأمن والسلام والتطور للجميع، ويمنع الحروب أو يحد منها، ويخفف من قدرة الدول القوية على الهيمنة على الدول الضعيفة.
طالبت بعض الدول بتقوية الأمم المتحدة، وعمل تغييرات في تركيبة مجلس الأمن، خاصة المقاعد الدائمة فيه، والتي تملك حق النقض. وطالبت دول وأقاليم عديدة بالحصول على العضوية الدائمة، كالهند والمجموعة الأفريقية والبرازيل.
الأوضح من بين الدول التي تعمل على تغيير النظام الدولي الحالي هي روسيا، التي تحدث وزير خارجيتها لافروف بصراحة عن أن روسيا تعمل من أجل "عالم متعدد الاقطاب ونظام لا يستفز أحد، لأنها لا ترضى باستمرار استبداد القطب الواحد ".
اعتبرت روسيا، أن الخلاص من نظام القطب الواحد الذي يقوده الغرب وأمريكا هو قضيتها الخاصة، ليس فقط لاعتبارات جيواستراتيجية، تمثلت في تطويقها بالأعداء الاطلسيين، وافتعال المشاكل داخلها، بل ايضا لأنها شعرت أنه تم استغفالها وطعنها في كرامتها. في هذا الإطار قال بوتين "مشكلتنا أننا وثقنا بالغرب أكثر مما يجب، وفهموا ثقتنا ضعفا". لهذا السبب تعتبر الحرب في اوكرانيا حربا على شكل النظام العالمي وموقع كل طرف في هذا النظام.
في كل الظروف، وأيا كانت النتائج في صراع الدول الكبرى الحالي، بين متشبث بالنظام القديم الذي يبدو أنه لن يستطيع البقاء على شكله الحالي، وبين ساع لاستبداله بنظام آخر، متعدد الاقطاب، أو غير ذلك، فإن من واجب شعوب العالم ودوله، أن توضح تصوراتها للنظام القادم، فهي حتى وإن لم تكن جزءا فاعلا فيه، فإنها بالتأكيد لن تستطيع الهروب من تأثيراته سلبا أو ايجابا.
العالم العربي والنظام الدولي
أكثر من عانى من تسيد امريكا على نظام القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هو العالم العربي. فهو بحكم موقعه الجيواستراتيجي المتوسط، وحالة الضعف والتفكك التي يعيشها، يعتبر الساحة التي تتحقق عليها حروب الكبار بالوكالة، وهو في هذه الحروب، لا يشكل فضاء سلبيا بل يشارك ابناؤه فيها. انهم ضحاياها في حالات النصر أو الهزيمة، وليسوا شركاء في ثمارها إن وجدت.
والعالم العربي، والشرق الاسلامي إجمالا، هو المكان الذي توجد فيه نسبة كبيرة من المواد الخام التي يحتاجها الغرب بالأساس. لذلك يسعى الغرب لإبقاء الهيمنة عليه، ليس فقط من أجل استثمار تلك المواد، بل من أجل التحكم بمنافسيه الآخرين الذين يحتاجونها. فالشرق هو ساحة الصراع الأساسية جغرافيا، وهو جزء مهم من أدوات الصراع بامتلاكه للمواد الخام، ولكثير من المقاتلين لغير صالحه، على شكل جيوش أحيانا، وعلى شكل إرهابيين أحيانا أخرى.
لذلك يصر الغرب - أمريكا أساسا- على بسط هيمنته على المنطقة، اما بواسطة جيوشه مباشرة، كما يحدث في شمال شرق سوريا، حيث توجد القواعد الأمريكية قرب حقول النفط، أو بواسطة اسرائيل، التي تفرض نفوذها باحتلالها المباشر لفلسطين ولأراض عربية، وكذلك من خلال التطبيع الذي فرضته امريكا على كثير من البلدان العربية، فالتطبيع في بعض جوانبه، هو إحلال اسرائيل مكان الولايات المتحدة في العالم العربي، لكي تتفرغ هي للعمل في مناطق أشد سخونة، مثل منطقتي شرق آسيا وشرق اوروبا.
وإذا ما أضفنا الى كل ذلك، ما يعانيه الشرق وثقافته من استعلاء وعنصرية من قبل الغرب والصهيونية، وانتشار الاسلاموفوبيا بشكل واضح في ممارسات كثير من حكومات الغرب ونخبه، ندرك كم أن هذا الشرق بحاجة لنظام دولي أكثر عدلا وموضوعية، وأقل استبدادا وتسلطا.
ان وجود شرق اسلامي متحرر من الهيمنة، يقرر مصيره بنفسه، ويتحكم بموارده، يحرم الغرب أساسا، والقوى الكبرى المتصارعة، من أهم ساحات صراعها، وأهم مواد صراعها وأدواته، ويساعد في خلق عالم أكثر توازنا وأكثر اخلاقا ومنطقية، ولهذا السبب على جميع شعوب الشرق، وايضا دوله، وقواه الحية، أن تساهم ايجابا في إنهاء نظام القطب الواحد، وسيطرة الغرب الامبريالي.
"عن الأخبار اللبنانية"
* اكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

دلالات

شارك برأيك

الشرق والنظام العالمي "العتيد"

المزيد في أقلام وأراء

هناك خطة للغد

غيرشون باسكن

إسرائيل تصارع اوهام النصر

حديث القدس

الاحتلال الإسرائيلي بين «الذكاء الاصطناعي» و«الغباء الفطري»

عماد شقور

المفاوضات بين حماس والمستعمرة

حمادة فراعنة

المحاكم.. مكان لاختبار الصبر!

سمر هواش

تأملات-- النساء الفاضلات كثيرات

جابر سعادة / عابود

هل هو تنازع على من يخدم إسرائيل أكثر؟

فتحي أحمد

التعافي من الفاقد التعليمي واستقرار منظومة التعليم

ثروت زيد الكيلاني

اليابان: غزة والشرق الوسط

دلال صائب عريقات

شكراً تونس

رمزي عودة

تأثير الحرب على التعليم.. دمار شامل بغزة وصعوبات كبيرة بالضفة

رحاب العامور

إسرائيل تحاول التنصل من جرائمها

حديث القدس

الفعل وليس القرارات ما هو مطلوب

حمادة فراعنة

حراك الجامعات في مواجهة ألة القمع الإسرائيلية

زاهي علاوي

استكشاف هندسة الأوامر: الابتكار والتطور والتأثير على المستقبل

صدقي أبو ضهير

‏ الحكومة الجديدة وأهمية دعم القطاع الزراعي

عقل أبو قرع

معاداة السامية" ... سلاح ظلم وبغي

عطية الجبارين

القادمون من السراديب والذاهبون إليها

حمدي فراج

القمة العربية ما بين الوقائع والاستحقاقات اللازمة

مروان أميل طوباسي

أمريكا وحروب الإبادة: سجل حافل بالصناعة أو التورط

صبحي حديدي

أسعار العملات

الأحد 19 مايو 2024 10:55 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.73

شراء 3.72

دينار / شيكل

بيع 5.31

شراء 5.29

يورو / شيكل

بيع 4.06

شراء 4.01

بعد سبعة أشهر، هل اقتربت إسرائيل من القضاء على حماس؟

%9

%91

(مجموع المصوتين 78)

القدس حالة الطقس