بقلم صدقي أبوضهير / باحث ومستشار في الإعلام والتسويق الرقمي
مقدمة:
في العقدين الأخيرين، شهد الخطاب الديني تحولات جوهرية بفعل انخراطه في فضاء السوشال ميديا. لم يعد الدين خطابًا يُنتج داخل منابر المعرفة التقليدية فقط، بل أصبح مادةً ترويجية تُعيد تشكيل ذاتها ضمن منطق "المحتوى"، حيث الخوارزميات، و"الترند"، والتفاعل الجماهيري، هي التي تمنح الشرعية لا النصوص.
إن هذا التحول لا يُعدّ سلبيًا بالضرورة، لكنه بات يطرح تحديات خطيرة حين يُمارس دون ضوابط معرفية أو وازع أخلاقي، وخصوصًا حين يتحوّل الدين إلى أداة جذب رقمي أو وسيلة تأثير نفعية، تتداخل فيها النية بالشهرة، والنص بالتحوير، والنية بالإعلانات.
أولًا: منبر بلا معايير… منصات بلا حراس
بعكس المؤسسات الدينية التقليدية التي تخضع لمنظومات من الضبط والمراجعة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي فتحت المجال أمام أي فرد –بغض النظر عن خلفيته الشرعية– ليُقدّم رأيه تحت غطاء "الوعظ" أو "التذكير الديني". هنا تتحول "الفكرة" إلى "منتج"، ويغيب السؤال الجوهري: ما مصدر هذه المعرفة؟ ومن يقيّمها؟
وقد أظهرت دراسات (مثل دراسة المركز العربي للأبحاث، 2022) أن أكثر من 67% من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يستقون بعض مفاهيمهم الدينية من السوشال ميديا، وليس من مصادر علمية رصينة.
ثانيًا: التفاعل على حساب المعنى
تُشجّع خوارزميات المنصات المحتوى الذي يُثير مشاعر قوية: الخوف، الغضب، الدهشة. وهنا، وقع بعض منتجي المحتوى الديني في فخ تحويل النصوص المقدسة إلى وسيلة إثارة، حيث يُضخَّم العقاب ويُختزل الرحمة، وتُعرض مشاهد “التذكير بالموت” في سياقات تمثيلية مبتذلة، تفقد النص قيمته الروحية وتحوّله إلى تجربة بصرية آنية.
هذا النوع من "الوعظ المرئي" قد يخلق حالة من الخوف الآني لا تُبنى عليها سلوكيات إيمانية حقيقية، بل تستهلك المشهد ثم تنساه.
ثالثًا: الخصخصة الرقمية للدين
ربط الدين بالمحتوى الرقمي أفرز ظاهرة "المُتدين المؤثر" الذي قد يُعلي من ذاته على حساب النص. حين يتحول المتحدث باسم الدين إلى "براند" رقمي له جدول نشر، ورعاة إعلانات، و"call to action"، فإن حدود النية والمعنى تبدأ بالتماهي، ويُعاد تشكيل الدين نفسه بلغة السوق: الجاذبية، الحضور، والانتشار.
وهذا لا يُعد تشكيكًا في النوايا، لكنه يُحتم علينا طرح السؤال الأخلاقي والإعلامي معًا: هل يجوز أن يُعاد بناء الخطاب الديني بمنطق المنصة لا بمنطق الرسالة؟
رابعًا: الدين كهوية بصرية وسلوكية
أصبح التدين في بعض السياقات الرقمية شكلاً من أشكال "الهوية الاستعراضية"، حيث تُعرض الطقوس، والممارسات، والتجارب الشخصية، ضمن خطاب يُظهر القرب من الله كعلامة على النجاح أو الطمأنينة، دون مساءلة عن السياق، أو أثر ذلك على المتلقي الذي قد يُقارن نفسه فيُصاب بالإحباط الروحي أو الشك.
في دراسة أجرتها جامعة نورثويسترن (2023)، أُشير إلى أن 42% من الشباب الذين يتابعون محتوى ديني على تيك توك أو إنستغرام، يشعرون بالذنب مقارنةً بما يشاهدونه من حياة “إيمانية مثالية”.
خامسًا: تشويه المرجعيات وتضخيم الأثر
أدى ربط الدين بالمحتوى المرئي إلى تراجع المرجعيات العلمية لصالح "صوت المنصة". فأصبحت الفتوى تُختزل في دقيقة، ويُناقش القضايا الكبرى بلغة سطحية، تفتقر للعمق والسياق الفقهي. وتم إهمال المنهج، وتقديس التأثير.
هذا يُنتج حالة معرفية هشة، ترتكز على الانبهار، لا على الاستدلال.
الخاتمة: نحو خطاب ديني رقمي مسؤول
لسنا هنا بصدد الحكم على نوايا الأشخاص أو التشكيك في جدوى تبليغ الدين عبر السوشال ميديا، بل نطمح لتأطير هذا التبليغ ضمن معايير علمية وأخلاقية صارمة، تُعيد للدين هيبته، وللنصوص قدسيتها، وللخطاب عمقه.
ينبغي أن يتحول دور منصات التواصل من الترويج للدين كمنتج، إلى وسيلة تفتح أبواب الفهم والتدبر، ضمن بيئة تحترم المرجعية وتُعلي من قيمة المعرفة، لا فقط من عدد المتابعين. هذا المقال لا يصدر عن موقع ديني أو جهة إفتاء، بل هو قراءة إعلامية تحليلية لواقع رقمي معقّد، نحتاج أن نتعامل معه بوعي، دون تهويل أو تسطيح.
شارك برأيك
"حين يتحوّل الدين إلى محتوى: تسليع الإيمان في زمن السوشال ميديا"