أقلام وأراء

الإثنين 28 أبريل 2025 8:56 صباحًا - بتوقيت القدس

دولة النصف راتب... حين تحكم البيروقراطية شعباً بلا سيادة

 أمين الحاج 


في ركن صغير من هذا العالم المزدحم، مركز الكون بلا منازع، حيث يترك أثره على كل شيء، في السياسة الدولية، والتجارة العالمية، وأسواق المال، هو حقاً ركن صغير، لكنه كبير بما يكفي لأن تتصارع لأجله الأجيال، العالمان العربي والإسلامي من جهة، والعالم الغربي من جهة أخرى، وبين هذين وذاك، مشروع غربي استعماري إحلالي يجثم فوق صدره، وله من الأطماع ما لا حد له.

 وفي ركن من هذا الركن الصغير، تقوم سلطة فلسطينية، تشبه الدولة في كل شيء إلا السيادة، رئيس ونائب، وزراء ومدراء عامون، صور فوق الجدران، بروتوكولات صارمة، مكاتب فخمة، أختام رسمية، خطب وشعارات، كل شيء موجود تقريباً، ولا يغيب إلا الجوهر؛ الحرية والاستقلال.

 في هذه "الدولة" الهشة، يتقاضى الموظف نصف راتب أو أكثر قليلاً منذ سنوات، نصف راتب مقابل حياة كاملة؛ مقابل الانتظار على الحواجز، وتناول وجبة الذل اليومية، والصبر على غلاء العيش، والسكوت على الاحتكار والمحسوبية والفساد، رواتب متقطعة ومنقوصة، وقد نصدق القول إن قلنا أن البنوك تتقاضى ما بقي منها، ونعلم جميعاً أن ذلك يحدث بسبب احتجاز أموال المقاصة، ومع ذلك لم تتوقف المراسيم الإدارية عن إصدار قرارات تعيين جديدة أو ابتكار ألقاب شكلية.

 في هذه الدولة، يختصر الحلم الوطني في نشيد يردده طفل دامع حافي القدمين، وفي نشرة أخبار رسمية بما هو جديد، تعلن للشعب عن مرسوم جديد، أو زيارة مسؤول لآخر، ومواكب مصفحة بالحديد حيث يتصافحون بحرارة وكأنهم يأتون من قطبي الأرض ذوات الجليد، وسط حضور مزدحم بالكاميرات، فالكل يريد توثيق اللحظة التاريخية، رغم أن كليهما قد يحتاج إذن خفي ليعبر إلى مكان الاجتماع من جديد، فلا أحد يتحرك بحرية، وحتى أولئك الذين تسبقهم أو تحيط بهم السيارات ذات الزجاج المعتم، يحتاجون لتنسيق أو إذن ليعبروا من محافظة إلى أخرى، ومع ذلك، يصر هذا النظام الإداري على استعراض مظاهر السلطة، مؤتمرات فخمة، احتفالات مهيبة، ألقاب رنانة، ترقيات وأوسمة... كل ذلك يجري فوق أرض تخنقها البوابات والحواجز، ويغلقها مستوطن واحد جاء من أقاصي الدنيا، وفوق ذلك كله، شعب يذبح من الوريد إلى الوريد، ويقتل بالنار والحديد، سواء كان في الجنوب أو الشمال، حل في السهول أو سكن الجبال، بعضهم يعاني الموت والفقر، وكلهم يعاني غياب الأفق، وضبابية المستقبل الذي يبدو معلقاً بين احتلال لا يرحل وسلطة لا تتحرر. 

في هذه البقعة المضطردة، لا تقاس السلطة بقدرتها على تحرير الأرض، أو حماية الإنسان، بل بعدد الوزارات والاجتماعات وطول المواكب، حتى أصبحت الدولة مشهداً تمثيلياً متقن الإخراج، يتحلق المسؤولون حول طاولة مزينة بالورود، يتبادلون العبارات المنمقة والابتسامات المصطنعة، ثم ينفضون جميعاً إلى بؤسنا المشترك، حيث مشهد الـ"لا سيادة" والـ"لا حرية" والـ"لا قدرة"، فالاحتلال مستمر، وكأن لا دولة هنا، والاستيطان يتمدد، وكأن لا سلطة هنا، الحواجز تخنق يوم الفلسطيني، وكأن لا مقاومة سلمية هنا، وكل ذلك يحدث وكأن لا شعب هنا.

 ومع ذلك، في ركن آخر من هذا المشهد العبثي، تعقد الاجتماعات البروتوكولية، وتصرف الميزانيات المهولة، التي كان الأجدر أن تصرف على حماية قرية مهددة، أو تدعم مزارعاً اقتلع مع أشجاره، أو آخر شرد مع ماشيته. سابقاً، حذرت المؤسسات الدولية من انهيار اقتصادي وشيك، وكررت إصدار تقارير عن وضع كارثي، لكن هناك، ليس ببعيد، تواصل السلطة بناء وهم من ورق، فهذا الانفصام بين مظاهر الحكم وجوهر الواقع ليس مجرد خلل إداري، بل هو إعادة انتاج لواقع الاحتلال، وتدجين لطموحات التحرر الوطني إلى طموحات إدارية صغيرة، حتى بات التحرر يعني تنقل الموكب الرسمي عبر الحواجز دون منغصات، لا إسقاط هذه الحواجز، في "دولة نصف الراتب" يصبح الحلم ليس في الاستقلال، بل في الحصول على راتب كامل، أو تصريح عمل داخل المستوطنات، أو بطاقة تتيح التنقل بأريحية، أو ربما في فرصة للهروب من حياة الخنق المزدوج، دون مساواة بين طرفيها، خنق الاحتلال وخنق البيروقراطية المنفصلة عن الواقع.

 هكذا تتحول قضية الأمة الكبرى إلى أزمة رواتب، والمشروع الوطني إلى جدول أعمال، والمقاومة إلى مداخلات مكتوبة في تقارير رسمية، وتبقى الدولة في حدود الورق، والمواطن أسيراً خلف قضبان الواقع، ففي الدول الحقيقية، تبنى السلطة لخدمة الشعب، أما في بلاد نصف الراتب، فالشعب مجرد خلفية صامتة لسلطة تصارع بمظهر الدولة دون أن تمتلك روحها.


.......


في هذه "الدولة" الهشة، يتقاضى الموظف نصف راتب أو أكثر قليلاً منذ سنوات، نصف راتب مقابل حياة كاملة؛ مقابل الانتظار على الحواجز، وتناول وجبة الذل اليومية، والصبر على غلاء العيش، والسكوت على الاحتكار والمحسوبية والفساد.

دلالات

شارك برأيك

دولة النصف راتب... حين تحكم البيروقراطية شعباً بلا سيادة

عواد شرف قبل 13 أيام

رام الله - فلسطين 🇵🇸

من ال 2020 #نصف_راتب: نحن الجالسون خلف المكاتب قررنا ما يلي: ايها الموظف.. اسكت.. لا تعاتب. سنصرف لك.. نصف راتب عيش.. واعطينا اوامرنا للبنوك... نصف القرض فقط أن تحاسب ولك ان تنعم بالباقي..

المزيد في أقلام وأراء

الاعتراف المزعوم والهراء المعلن

أمين الحاج

إسرائيل على مفترق طرق.. احتلال، إبادة جماعية، وموت رؤية

ألون بن - مئير

انكشاف الغرب الاستعماري وتعريته

حمادة فراعنة

الإدارة على مفترق طرق.. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل دور القادة والمؤسسات؟

د. عمر السلخي

بين خطاب فريدمان ومصالح ترامب.. فلسطين قضية تحرر وطني وليست ورقة على طاولة الصفقات

مروان إميل طوباسي

شكوك حول نوايا وجدوى خطة المساعدات الأمريكية لغزة !

نبهان خريشة

كل الجهود لوقف حرب الإبادة وإفشال مخططات التهجير والترحيل

وليد العوض

في جدلية التناقض الرئيسي والثانوي

محسن أبو رمضان

تجارة لا تبور

إسماعيل الشريف

جائحة الركود التضخمي الجديد

حسام عايش

عائلة بأكملها في قبضة الغياب... حين تُقصف السماء الذاكرة

بن معمر الحاج عيسى كاتب وباحث جزائري

رفح.. سنة في درب المعاناة وسبع محطات من الصبر الجميل المقدّس

حلمي أبو طه

الهجمة على القدس تشتد وتمتد وتتسع

راسم عبيدات

اصلاح حال بال المراهقين/ المراهقات (3)

غسان عبد الله

قراءة في مذكرة التفاهم الثنائية بين الحكومتين الفلسطينية والبريطانية

د. دلال صائب عريقات

أوروبا تحتفل.. ونحن ننتحب

أمين الحاج

كُـنْ مســاعداً...!

د. أفنان نظير دروزه

حين تُمنع الكلمات.. تكميم البحث العلمي وطمس المعرفة في زمن الإبادة

د. سماح جبر/ استشارية الطب النفسي

بعد ٨٠ عاماً من الانتصار على النازية.. شعبنا بإرادته وإتقان شروط المواجهة سينتصر أيضاً

دروز سوريَة بين نار داعش ونار إسرائيل!

أسعار العملات

الأربعاء 07 مايو 2025 11:16 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.62

شراء 3.61

دينار / شيكل

بيع 5.11

شراء 5.1

يورو / شيكل

بيع 4.11

شراء 4.1

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 1215)