فلسطين

السّبت 26 أبريل 2025 2:03 مساءً - بتوقيت القدس

فتحي أبو سبيتان... الرجل الذي طبع نبض فلسطين بيديه

رام الله - حاص بالـ "القدس" دوت كوم- مهند ياسين

 

خرج من المستشفى بملابس المريض والإبرة في ذراعه لتصدر الجريدة في موعدها ///

 

فتحي أبو سبيتان... الرجل الذي طبع نبض فلسطين بيديه

 

العدد الذي لا ينسى: طباعة علم فلسطين على الصفحةالأولى لجريدة القدس

كل نسخة تُطبع ليست مجرد ورقة بل وثيقة وشاهد علىزمن وذاكرة تُسلم من جيل إلى جيل

الجريدة لم تكن ورقًا وحبرًا فقط... بل روح تُولد كل يوم منيد رجل اسمه فتحي أبو سبيتان 

مشهد القارئ الورقي أصبح نادرًا والأكشاك لم تعد تعجبالمتصفحين ولا الأرصفة مزدحمة بأوراق القدس المفتوحةعلى هموم الوطن


 

فتى يعشق المطبعة

 

في أحد أزقة القدس، في نهاية ستينيات القرن الماضي،وتحديدًا عند بوابة مطبعة جريدة القدس، بدأت القصةالتي لم تُكتب بحبر، بل بصبر وشغف طفل لم يتجاوزالثانية عشرة من عمره. لم يكن فتحي أبو سبيتان يدركحينها أن خطواته الصغيرة نحو المطبعة، محمّلًا بطعامالغداء لشقيقه الأكبر، ستقوده إلى مسيرة عمر بأكمله،سيقضيها بين صفائح الرصاص وهدير الطابعات.

كان المشهد سحريًا بالنسبة لطفل: آلات ضخمة تدور،أوراق تخرج من قلب الحديد، رجال يركضون من زاويةلأخرى، وحروف تُسكب على الورق كأنها تتنفس. لم تكنمهمته سوى إيصال الطعام، لكنه كان يعود إلى البيتحاملًا معه طيف صوت الطابعة، ورائحة الورق المبللبالحبر، وصورة العناوين وهي تُولد أمام عينيه. لم يكنيملك شيئًا من كل ذلك، سوى الحلم.

 

من الشاي إلى الحبر

 

وبعد عام فقط، انضم رسميًا إلى طاقم الجريدة، ليسكطبّاع أو فني، بل كصانع شاي وقهوة للعاملين. لكنه كانيعرف تمامًا أن المكان الذي ينتمي إليه ليس في المطبخ، بلفي قلب المطبعة، حيث تنبض الماكينات بالحياة. لم تمضِسنة حتى أصبح جزءًا من الوردية الليلية، يعمل إلىجانب شقيقه على طابعة "دوبلكس" السويدية القديمة،التي كانت تطبع ثماني صفحات فقط، باللونين الأبيضوالأسود، باستخدام ألواح رصاص ضخمة يصل وزنالواحد منها إلى ٧٠ كيلوغرامًا. كان نقل اللوح إلىالماكينة يحتاج إلى اثنين من العمال.

لم يكن العمل سهلاً، بل أشبه بحرفة يدوية معقّدة: تجهيزالصفحات كان يتم عبر ماكينات "لينوتايب" و"إنترتايب"، أما العناوين فكانت تُعدّ بخط اليد علىأيدي خطاط محترف، ثم تُنقل بتقنية "الزينكوغراف" – الحفر الضوئي – على لوح معدني يُثبت في الطابعة. كانت العناوين تُكتب بأحجام ضخمة (٢٢، ٤٨، ٩٠ نقطة)،فيما الكلمات الصغيرة تُصاغ بحروف دقيقة (٩، ١٠، ١٢ نقطة).

ما زالت تلك الأيام محفورة في ذاكرته، ليس لأنها كانتمتعبة، بل لأنها شكّلت نواة انتمائه لجريدة لم تغب عنصدره يومًا. كان يراقب الكلمات وهي تخرج من قلبالمعدن، كأنها تشهد على وقائع الوطن ساعة بساعة. فتحي لم يكن مجرد عامل في مطبعة، بل شاهد على ولادةكل عدد، بكل ما حمله من نبض الناس وهموم البلاد.

وهكذا، دون أن يخطط، أصبح فتحي أبو سبيتان ابنًاحقيقيًا لجريدة القدس، وعقارب روحه كانت تدور كل ليلةمع عقارب ساعة الطابعة.

 

حين يُولد العدد

 

عندما يسأل الناس فتحي عن شعوره لحظة صدورالجريدة، لا يتردد في الجواب: "كأنني أرى أحد أبنائييولد من جديد." هذا هو الحب الذي لا يتغير مع الأيام،رغم مرور العقود وتعاقب التكنولوجيا. كل فجر جديد،حين تخرج النسخة الورقية من تحت ماكينة الطباعة،يشعر فتحي بفرح نادر، بإنجاز لا يضاهيه إنجاز.

هو ليس مجرد موظف يطبع الكلمات، بل شريك فيصياغة الوعي الفلسطيني، ساهر على نبض الناس،ومؤتمن على صرخة الشارع. لم يكن يعرف الإجازات، بلنسيها طيلة ٢٣ عامًا، لم يأخذ خلالها يومًا واحدًا للراحة،باستثناء يومين من عيد الفطر ويومين من عيد الأضحى. حتى في أيام العيد، كان يعود إلى عمله طواعية، يبدأدوامه في التاسعة مساءً ولا يغادر حتى تُسلَّم الجريدةللفجر.

وفي إحدى تلك الليالي، بعد انتهاء عطلة العيد، عادكعادته إلى المطبعة، لكنه شعر بألم حاد في بطنه. استنجد بزميله نبيل خوري من قسم التصوير، الذي نقلهعلى الفور إلى المستشفى الفرنسي في القدس. تبيّن أنهيُعاني من حصى في الكلى، وكان من المفترض أن يُبقيهالأطباء في المستشفى.

لكن الجريدة لا تنتظر. كانت الساعة تقترب من منتصفالليل، ولم تُطبع صفحة واحدة بعد. في ذلك اليوم، كانفتحي هو الفني الوحيد القادر على تشغيل الطابعة. حينعلم د. مروان أبو الزلف بالموقف، اتصل شخصيًا بالطبيبالمشرف على الحالة، وطلب إذنًا بخروج مؤقت لفتحيحتى يُنجز الطباعة.

وبعد حقن مسكنات الألم، خرج فتحي من المستشفى وهويرتدي ملابس المريض، والإبرة لا تزال مثبتة في ذراعه،وتوجّه مباشرة إلى المطبعة. هناك، كان طاقم الإدارةبأكمله في انتظاره. الماكينة كانت متوقفة، والجميع علىأحر من الجمر. دخل فتحي، نظر للطابعة، تنفس بعمق،أدار مفاتيح الصيانة، ولم تمضِ دقائق حتى عادت الماكينةللعمل، وخرج العدد كما يجب، في موعده تمامًا.

تلك الليلة، لم تكن فقط درسًا في الإخلاص، بل شهادةنادرة على أن الجريدة ليست ورقًا وحبرًا فقط... بل روحتُولد كل يوم من يد رجل اسمه فتحي أبو سبيتان.

 

حين طُبع الانتصار

 

من بين آلاف الأعداد التي ساهم فتحي أبو سبيتان فيطباعتها على مدى عقود، هناك عدد واحد لم يفارقه، بقيمحفورًا في ذاكرته كما يُحفر الحلم على صخر التجربة. لميكن يوماً عاديًا، بل لحظة فارقة في ذاكرة الوطن، ومفترقطرق في مسيرة جريدة القدس.

في بداية سبعينيات القرن الماضي، دون أن يتذكر اليوم أوالتاريخ بدقة، وقعت الحادثة التي وصفها فتحي بأنها"الأقرب إلى قلبه". في ذلك الصباح، سمحت الرقابةالإسرائيلية – ولأول مرة – بطباعة علم فلسطين علىالصفحة الأولى من جريدة القدس. في ذلك الزمن، لم يكنظهور العلم الفلسطيني أمرًا اعتياديًا، بل تحديًا سياسيًا،وموقفًا محفوفًا بالمخاطر.

وقف حينها في المطبعة، إلى جانب الراحل محمود أبوالزلف، مؤسس الجريدة، ومعهما معظم العاملين. لم يكنأحد يتحدث. كانت العيون متجهة نحو الماكينة التي تلفظالورق تلو الورق. وحين ظهرت أول نسخة، تحمل رايةفلسطين بألوانها الأربعة، انفجر المكان بالتصفيق. كانالتصفيق عفويًا، حارًا، من القلب، كأن الجريدة أنجبت فيتلك اللحظة جزءًا من الهوية التي كان الاحتلال يسعىلمحوها.

لم تكن تلك مجرد صفحة مطبوعة... كانت راية مرفوعة،حلمًا حُقّق، وصرخة خرجت من بين آلات الطباعة لتصلإلى قلب كل فلسطيني. يقول فتحي: "ذلك العدد لم يكنمجرد جريدة... كان لحظة انتصار. ومن يومها، شعرت أنهذه المهنة ليست مهنة فقط، بل رسالة."

تلك اللحظة، في عيون فتحي، كانت أهم من كل التقنيات،وأغلى من كل التطويرات، لأنها كانت أول مرة يطبع فيهاشيئًا لا يُقرأ فقط، بل يُعاش.

 

عندما يصمت التيار وتواصل الجريدة الصدور

 

بالرغم من مئات الليالي التي قضاها فتحي أبو سبيتانبين صوت الماكينات وحرارة الحبر، لم يكن يعتبر عمله فيمطبعة جريدة القدس شاقًا أو معقدًا، "أنا لا أرى فيعملي صعوبة حقيقية"، يقول ذلك بثقة من عاش المهنةبتفاصيلها. بالنسبة له، التحديات الميكانيكية يمكنالتغلب عليها، إذ توجد دائمًا بدائل وأدوات تعويض. وحدها الكهرباء، عندما تنقطع، تفرض سطوتها وتجعلكل شيء يقف عاجزًا.

في أحد الأيام، واجه الفريق انقطاعًا مفاجئًا في الكهرباء،أدى إلى تعطل "مخ الطابعة"، وهو النظام الإلكترونيالمسؤول عن توزيع الأوامر داخل الطابعة الضخمة. استدعى الموقف تدخلاً عاجلًا، لكن الوقت كان يضيق،وكانت الصحيفة مهددة بألا تصدر صباح اليوم التالي،وهو أمر لم يكن فتحي ليسمح بحدوثه.

في ذلك اليوم، اتُخذ قراراً لم يُتخذ إلا في مناسبتين فقططيلة عقود: اللجوء إلى طباعة الجريدة في مطبعةخارجية. توجه الفريق إلى جريدة الأيام، وهناك طُبع عدد"القدس" بإشراف طاقمها، في لحظة نادرة من التعاونبين المؤسسات الصحفية، تأكيدًا على أن الرسالة أقوى منالمنافسة.

المرة الثانية كانت قبل خمس سنوات من ذلك، حين تعطلقسم التصوير في مطبعة القدس، واضطر الفريق إلىطباعة الجريدة في جريدة الحياة. وفي المقابل، يذكرفتحي بفخر أن مطبعة القدس بدورها استقبلت مرات عدةجريدة الحياة، عندما واجهت الأخيرة أعطالًا مماثلة.

بالنسبة لفتحي، هذه المواقف لم تكن نكسة، بل دليل علىصلابة الجريدة وصلابة من يقفون خلفها. فهو يرى في كليوم عمل تحديًا جميلاً، وفي كل خلل فرصة جديدة لإثباتأن الجريدة لا تُهزم، حتى حين يغيب النور.

في زمن تتبدل فيه تقنيات الطباعة بوتيرة مذهلة، يجلسفتحي أبو سبيتان في قلب مطبعة جريدة القدس، محاطًابماكينات "الأوفست" التي يعرفها كما يعرف نبض يده،متأملاً ما بلغه عالم الطباعة من تطور. ورغم شغفه الدائمبالتحديث، لا يُخفي واقعيته: "التطور التكنولوجي سريعجدًا، وأحيانًا لا يمكننا اللحاق به."

اليوم، أصبحت هناك طابعات رقمية حديثة تستطيعطباعة 120 ألف نسخة في الساعة، دون حاجة لما يُعرف بـ“البليت" أو أي تجهيز ميكانيكي معقد. فقط أمر من جهازالكمبيوتر، وتبدأ الماكينة بعملها بكفاءة مذهلة. لكنها، كمايقول فتحي، لا تناسب جريدة القدس. فهذه الطابعاتالألمانية العملاقة صُممت لمؤسسات تطبع مليون نسخةيوميًا، في حين أن القدس لا تطبع هذا الرقم، بالإضافة إلىسعرها الذي يتجاوز 12 مليون يورو.

 

حينما أصبح الخبر أسرع من الورق!

 

ويروي فتحي بانكسار خفيف "مرت سنوات كانت فيهاالصحيفة تُنتظر على أبواب الأكشاك مع بزوغ الصباح،وكان القرّاء يتدافعون للحصول على نسختهم اليومية. أمااليوم، فالمشهد تغيّر تمامًا."

فقد أصبح الخبر أسرع من الورق. تصل الأحداث إلىالناس لحظة وقوعها عبر هواتفهم، وتنتشر على منصاتالتواصل الاجتماعي قبل أن يُطبع العنوان على الصفحةالأولى. ومع هذا التحول، لم تعد الجريدة تطبع كما كانتمن قبل، إذ بات الاعتماد يتزايد على النسخ الإلكترونية،في ظل تغير عادات القراءة وتفضيلات الجمهور.

ومع ذلك، لا يشعر فتحي بأن ما يقوم به فقد قيمته. بلعلى العكس، ويقول "نحن لا نطبع الخبر فقط، نحن نوثقالذاكرة. قد يكون الخبر قد نُشر في كل مكان، لكن ثباتهعلى الورق هو ما يمنحه وزنه الحقيقي."

ففي كل نسخة تُطبع، يرى فتحي أنها ليست مجرد ورقة... بل وثيقة، وشاهد على زمن، وذاكرة تُسلم من جيل إلىجيل.

 

"ابني من يطبع الجريدة.. لماذا تشتم ابني؟"

 

كان فتحي أبو سبيتان، لسنوات طويلة، يمر في أسواقالقدس وعيونه تلمع فرحًا. لم يكن بحاجة إلى أن يُسأل عنعمله، فكل من يحمل نسخة من جريدة القدس كان يحملجزءًا من جهده الليلي، وكل قارئ ينظر بتركيز إلىالعناوين، كان يقرأ سطرًا من قلب فتحي. "كنت أراهمكثيرًا، الناس في الطرقات، في المقاهي، في الحافلات،يفتحون الجريدة كأنهم يفتحون أبواب البلاد،" يرويفتحي بابتسامة مشوبة بالحسرة.

لكن المشهد تغيّر. مع الوقت، ومع صعود النسخالإلكترونية وتغير عادات القراءة، أصبح مشهد القارئالورقي نادرًا. لم تعد الأكشاك تعج بالمتصفحين، ولاالأرصفة مزدحمة بأوراق القدس المفتوحة على همومالوطن. ويقول "اليوم، أمرّ كثيرًا ولا أرى أحدًا يقرأها كمافي السابق. شيء بداخلي يفتقد ذلك الزمن"

ورغم هذا، يبقى الاعتزاز حاضراً في كل تفصيلة، حتى فيالمواقف الطريفة التي تتقاطع فيها الجريدة مع الحياةاليومية. يضحك فتحي وهو يستعيد موقفًا من أياموالدته، التي كانت تستقل الحافلة ذات صباح في طريقهاإلى قريتها بيت إكسا قرب القدس، حين كان أحد الركابيقرأ الجريدة، ثم فجأة بدأ يشتم من طبعها، غاضبًا منخبر أو خطأ. لكن والدته، بحنان الأم وفخرها، نظرت إليهوقالت بكل بساطة:

"ابني هو من يطبع الجريدة... لماذا تشتم ابني؟"

تلك الجملة، رغم بساطتها، اختزلت كل ما يعنيه الأمرلفتحي: أن تكون مطبعة الجريدة امتدادًا لاسمك، وأنيتحول الحبر على الورق إلى كرامة عائلية وتاريخشخصي.

 

 

دلالات

شارك برأيك

فتحي أبو سبيتان... الرجل الذي طبع نبض فلسطين بيديه

المزيد في فلسطين

أسعار العملات

الأربعاء 07 مايو 2025 11:16 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.62

شراء 3.61

دينار / شيكل

بيع 5.11

شراء 5.1

يورو / شيكل

بيع 4.11

شراء 4.1

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 1215)