في أعقاب الحرب العالمية الثانية، جاءت خطة مارشال الأمريكية لانتشال أوروبا من أتون الحرب وإعادة إعمارها، يومها "استثمرت" الولايات المتحدة الأمريكية قرابة ثلاثة عشر مليار دولار، والتي ما كانت إلا استثماراً أمريكياً فريداً في مستقبلها كسيدة للعالم، وسعياً منها لتعزيز، بل لفرض سيطرتها ليس على أوروبا وحدها بل العالم برمته، أوروبا التي استخدمتها وظلت تستخدم حتى يومنا هذا كرأس حربة في مواجهة قطب العالم الآخر.
ثم ما لبثت الولايات المتحدة أن شعرت بمفعول قوتها الناعمة، فأقرت خصيصاً في العام 1961 قانوناً للمساعدات الخارجية، وظهرت للعلن ما بات يعرف بوكالة التنمية الأمريكية أو الـ"USAID" في عهد الرئيس جون كينيدي قبل اغتياله، ثم ما لبثت أن أصبحت في نهاية القرن الماضي، أي في العام 1998 مؤسسة مستقلة، تدير موازنات سنوية تتجاوز بمجملها الناتج المحلي لكل من اليمن والصومال وموريتانيا وجيبوتي وجزر القمر مجتمعة، أي ما يزيد عن 50 مليار دولار من المساعدات الخارجية التي تستخدم لتحقيق الأهداف الأمريكية الاستراتيجية حول العالم.
ثم ما لبثت أن تجاوزت المساعدات الأمريكية إطارها التقليدي، أي الجوانب المالية، إلى الأمنية والعسكرية والتدريب، وذلك على نحو يخدم توجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وقيل حينها أن البلاد التي ستكون مستعدة لتلقي المساعدات الأمريكية، لن تكون هناك حاجة لنشر القوات العسكرية فيها، وذلك في إشارة صريحة وواضحة إلى أن ذراعي الهيمنة الأمريكية هما الترغيب بالمساعدات الخارجية أو الترهيب بالقوة العسكرية، وبنظرة سريعة على قائمة أهم الدول وأكثرها تلقياً للمساعدات الخارجية الأمريكية في العقد المنصرم، يمكننا ملاحظة معالم السياسة الأمريكية وتوجهاتها، من أفغانستان إلى إسرائيل، فمصر والعراق والأردن.
حالياً، ترتفع الأصوات المؤيدة والمعارضة لتفكيك الوكالة أو إعادة هيكلتها ودمجها مع وزارة الخارجية الأمريكية، من هذه الأصوات ما هو معلن، والمنادي برفع الكفاءة وتنسيق السياسة الخارجية مع وزارة الخارجية، وضمان عدم ازدواجية التوجهات، والتأكد من أن ما ينفق من أموال الأمريكيين عبر الوكالة، يتم بالشكل الذي يخدم السياسة الأمريكية الجديدة في عهد "ترامب"، ومن الأسباب الأخرى المعلنة، هي وضع حد للفساد وهدر المال في أروقة الوكالة، و بالطبع فرض أجندات على عمل الوكالة، وذلك باعتبار أن ما تقوم به حالياً يتعارض مع "القيم" الأمريكية.
وبطبيعة الحال، هناك من الأسباب غير المعلنة، تلك التي تأتي في سياق الصراع المحتدم بين "الليبراليين" و"المحافظين"، فيرى المحافظون أن الوكالة تنفذ أجندة "تقدمية"، وهي مخالفة تماماً لأجندة الإدارة "المحافظة"، وبالتالي بات ينظر إلى الوكالة على أنها مكون هام من مكونات "الدولة العميقة" أو كأنها باتت تشكل معقلاً للجهات غير المنسجمة – تماماً - مع توجهات ساكن "البيت الأبيض" وسياساته الخارجية، الأمر الذي يرتبط أيضا بعقلية "ترامب" القائمة على الشعبوية الاقتصادية وفكرة "أمريكا أولاً"، تلك التي باتت تلقى قبولاً في الشارع الأمريكي، خاصة من أولئك الذي يرون وجوب التركيز على الشأن الداخلي كالصحة والتعليم، وتقليص الدعم الخارجي، وبالتالي يأتي هذا الخلاف حول دور أمريكا العالمي كجزء من هذا النقاش المستمر.
على الجانب الآخر، يرى أنصار المساعدات الأمريكية أن في وقفها أو حتى تقليصها مخاطرة عالية، أو أن ذلك كمن يطلق النار على قدميه، حيث يمكن لها أن تفتح الباب على مصراعيه أمام "أعداء" أمريكا، وبخاصة الصين وروسيا، لبسط نفوذهم شرقاً وغرباً.
وأمام هذا الوضع الجديد، وإن تم لترامب والمحافظين ما أرادوا، ستصبح وزارة الخارجية هي المرشح الطبيعي لوراثة الوكالة، والبوابة الجديدة للمساعدات الخارجية، ما يعني بالتالي تغليب الاعتبارات السياسية على المعايير أو الأهداف "التنموية"، وهو الأمر الذي سيجعلها تجمع الدبلوماسية و"التنمية" معاً، أو بلغة أخرى، لتكون هذه هي النسخة الأمريكية الجديدة من سياسة "العصا والجزرة".
............
يرى أنصار المساعدات الأمريكية أن في وقفها أو حتى تقليصها مخاطرة عالية، أو أن ذلك كمن يطلق النار على قدميه، حيث يمكن لها أن تفتح الباب على مصراعيه أمام "أعداء" أمريكا، وبخاصة الصين وروسيا، لبسط نفوذهم شرقاً وغرباً.
شارك برأيك
المساعدات الخارجية الأمريكية.. يَدُ أمريكا الطويلة حول العالم