Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الجمعة 24 يناير 2025 8:46 صباحًا - بتوقيت القدس

كيف يمكن للفن الفلسطيني أن يساهم في الصحة النفسية للمجتمع؟

في فلسطين، حيث تختلط الحقيقة بالملحمة، يصبح الفن أكثر من مجرد تعبير عن الذات. إنه ملاذ للروح ونداء للحرية. في واقع تحكمه الجدران والأسلاك الشائكة، يضيف الفن مساحة حرة وسط حصار خانق. إنه ليس رفاهية ولا ترفًا، بل ضرورة نفسية تفرضها المعاناة، ومقاومة واعية ضد محاولات طمس الهوية.


في الفلسفة الوجودية، يُعتبر الإنسان صانع معناه وسط عبثية العالم. كذلك، في فلسطين، يصنع الفنانون معنى لحياتهم وسط عبث الاحتلال. الرسم، الموسيقى، المسرح، وحتى الكتابة، كلها أدوات لتحويل الألم إلى شيء جميل، يمكن مشاركته مع الآخرين. هذا التحول ليس فقط شكلاً من أشكال المقاومة، بل هو  عملية علاجية تُعيد للفرد شعوره بالسيطرة على حياته في ظل قسوة الظروف.


ويظهر علم النفس أن الصدمات النفسية التي تُحكم الكتمان تتحول إلى سجون داخلية، تُثقل النفس وتُقيّدها. يلعب الفن هنا دور الحارس الذي يفتح أبواب هذه السجون. عندما يرسم طفل فلسطيني بيتاً كان قد تحطم، أو تُغني أم فقدت أبناءها لحنًا حزينًا، فإنهما يفرغان ما لا تستطيع الكلمات أن تصفه. هذه المساحة الإبداعية، وإن كانت صغيرة، تُتيح للجرح أن يلتئم وللصوت أن يُسمع.


إن الصدمات الجماعية تحتاج إلى استجابة جماعية. هنا يصبح المسرح الفلسطيني على سبيل المثال أكثر من عرض فني. إنه منصة لطرح الأسئلة الكبرى التي تشغل المجتمع، ومجال عام لاستكشاف المعاني المشتركة، وإعادة بناء الهوية الجمعية التي يُهددها الاستعمار. 


في فلسطين، حيث تبدو الحياة كأنها مسرح دائم للمآسي، يجد "مسرح المضطهدين" والذي أنشأه في البرازيل أوجاستو بوال، مكانه الطبيعي، يمكن للمسرح أن يتحول إلى ساحة لطرح الأسئلة، وإعادة صياغة الأدوار، وكسر دائرة العجز. في هذا الشكل من الفن، لا يبقى الجمهور متفرجًا سلبيًا؛ بل يصبح مشاركًا فاعلًا، يعيد بناء الواقع الذي يحاصره.


يقدم مسرح المضطهدين عروضاً مسرحية تنبض بالحياة، حيث يعتلي الناجون من القصف أو الأسر خشبة المسرح ليرووا قصصهم، لا ليُعيدوا الألم فقط، بل ليقترحوا حلولًا ويشاركوا في تشكيل رواية بديلة. هنا يُصبح المسرح مساحة لتحرير الذات والجماعة، ومقاومة للصمت المفروض بالقوة. إنه أداة علاجية ونضالية، تصنع الأمل وسط أصعب الظروف وتُصبح المعاناة الفردية مرآة لمعاناة الشعب بأكمله، مما يُعيد للأفراد شعورهم بالانتماء والتضامن.


تحدث عالم النفس الذي عمل في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، فرانز فانون، عن دور الإبداع في استعادة الكرامة المفقودة تحت الاستعمار. الفن الفلسطيني يحقق ذلك بامتياز. عندما يرسم الفنانون جدرانهم برسائل تحدٍ، أو يُقيمون معارض تُوثق النكبة والنكسة، فإنهم يستعيدون مساحة من الكرامة المفقودة. هذه الأعمال تُعيد للفلسطيني إحساسه بأنه ليس مجرد ضحية، بل هو فاعل في صياغة روايته الخاصة. وقد لفت انتباهي اهتمام الصحفية المقدسية والأسيره المحررة لمى غوشة في الرسم بعد تجربة الاعتقال، ويبدو أن هناك تجارب عصية على التعبير السردي، يقدم الفن طريقة أكثر أماناً للبوح بها.


شاهدت في فيلم مجاهدات للمخرجه الفرنسيه ألكسندرا دولس شهادات حول تنفيذ حكم الإعدام بالمقصلة في السجون الجزائريه أثناء الاستعمار الفرنسي، وكانت النساء تصدح بالأغاني الوطنية لتودع الأسير الذي يساق إلى حتفه؛ لم تكن الأهازيج لتمنع الموت، ولكن لربما خففت من وحشته. 


في ظل واقع مشبع بالعنف والإحباط، يلعب الفن دور الجسر الذي يربط الحاضر بالمستقبل. عندما يبتسم طفل وهو يشاهد مسرحية تسخر من الاحتلال، أو تُغني مجموعة من النساء أناشيد الحرية، فإنهم لا يعبرون فقط عن ألمهم، بل يُحيون الأمل بمستقبل مختلف. الأمل، كما يقول كارل يونغ، هو قدرة النفس على تصور ما هو أبعد من الواقع الراهن. 


لكن هذه المساحة الإبداعية ليست خالية من العوائق. القيود المفروضة على حرية التعبير، وشح الموارد، ومحاولات الاحتلال المستمرة لتشويه الثقافة الفلسطينية، كلها عقبات في وجه الفنانين. ومع ذلك، فإن الإبداع الفلسطيني يزدهر، متسلحًا بالإصرار على أن يكون الفن حارساً للذاكرة وجسراً إلى المستقبل.


في غزة المنكوبة، حيث يغطي الرمادي الأفق ويختلط الغبار بالحزن، يمكن للفن أن يكون فعل مقاومة وشفاء. بين الأنقاض، يلتقط الأطفال أقلام التلوين ويرسمون شمسًا تشرق فوق بيوت مهدمة. على الجدران التي شهدت الموت، تندفع الألوان لتروي قصص الحياة. في مدينة اعتادت على صوت القصف، يعلو صوت الموسيقى كلحن شجي، تعزفه أيادٍ تعرف معنى الألم لكنها لا تتوقف عن العزف. الفن هنا طوق نجاة، يحمي الروح من الغرق في بحر اليأس. إنه رسالة تقول إن غزة، رغم رمادها، ما زالت تنبض بالحياة، وما زالت قادرة على الحلم بغدٍ أكثر إشراقًا.


الإبادة في غزة ليست نهاية القصة، بل بداية لخلق معانٍ جديدة وصياغة لوحات تنبض بالحياة. إنها شهادة أبدية على قدرة الفلسطيني، رغم كل محاولات الطمس والقهر، على تحويل القيد إلى أغنية ملهمة، والجدار إلى لوحة تخلد الشهداء، والألم إلى إبداع يروي صمود الناس. إنها رسالة للعالم بأن الفلسطيني لا يُهزم؛ فهو يصنع من جراحه جسورًا نحو الحرية ومن أحزانه رواية تُخلد الأمل والكرامة

دلالات

شارك برأيك

كيف يمكن للفن الفلسطيني أن يساهم في الصحة النفسية للمجتمع؟

المزيد في أقلام وأراء

"حرب سلاسل الامداد" خدعة اللص الذي يصرخ: توقف ايها اللص

شينخوا- القدس دوت كوم

رسائل متبادلة بين الملك وترامب..، غزة مفتاح السلام لشرق عربي مزدهر

كريستين حنا نصر

خطة العرب لمواجهة ترمب

حديث القدس

بين النارين

حمادة فراعنة

أسباب طرح ترمب مخطط احتلال غزة وتهجير سكانها

صلاح جمعة نائب رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط

ترمب.. وتشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية

جيمس زغبي

بين التهديدات والمواقف العربية.. فلسطين في عين العاصفة

مروان اميل طوباسي

النظام الدولي الجديد.. بين الهيمنة والتوازن

د. محمود خليفة- سفير دولة فلسطين لدى بولندا

آثار غزة وحرب التاريخ" لحسام أبو النصر في متحف درويش

رام الله -"القدس" دوت كوم- توفيق العيسى

هذا زمان الشد فاشتدي

مؤيد شعبان

مناورات وسط المؤامرات

حديث القدس

البائع والمشتري لــ"ريفييرا غزة"!

نبهان خريشة

ما بين جامعة بيرزيت الفلسطينية وقصر بعبدا اللبناني

راسم عبيدات

ترمب يشتري غزة.. مرتك حلوة يا جحا وبتلبق لي

حمدي فراج

الجار الإيراني

حمادة فراعنة

بصراحة.. عن سيناريوهات "اليوم التالي"

هاني المصري

العزلة الأمريكية... فرصة لبناء قوة مضادة تفرض إرادتها

د. فوزي علي السمهوري

القمة العربية وأولوية توحيد الفلسطينيين

جمال زقوت

صاحب الصوت الذهبي.. وداعاً

د. خالد جميل مسمار

لقاء اليوم في واشنطن

حمادة فراعنة

أسعار العملات

الأحد 09 فبراير 2025 9:22 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.55

شراء 3.56

دينار / شيكل

بيع 5.01

شراء 5.0

يورو / شيكل

بيع 3.68

شراء 3.67

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%54

%46

(مجموع المصوتين 626)