أقلام وأراء
الخميس 16 يناير 2025 9:24 صباحًا - بتوقيت القدس
بعد وقف اطلاق النار: المعركة النفسية لا تنتهي

عندما تتوقف أصوات القصف، وتخمد المدافع في غزة، يظن البعض أن المعاناة قد انتهت. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن انتهاء العدوان لا يعني انتهاء الألم. بل يبدأ الناجون مرحلة جديدة من المواجهة، مواجهة الجراح النفسية التي تراكمت خلال أيام العدوان، لكنها لم تُمنح فرصة للظهور وسط الانشغال بالنجاة والبقاء.
خلال الحرب، يكون التركيز منصباً على الصمود. الأطفال الذين يهرعون إلى الملاجئ يحملون في عيونهم أسئلة لا إجابة لها، والنساء اللواتي يحمين أطفالهن بالكلمات والصلوات ويحاولن جاهدات إخفاء خوفهن. الرجال، من جانبهم، يسعون لتوفير قوت يومهم وما تيسر من الأمان في ظروف تتجاوز قدراتهم.
في تلك اللحظات العصيبة، يحاول الأطباء والمعالجون النفسيون تقديم الدعم في ظل القصف، لكن التحديات هائلة. لا توجد مساحات آمنة كافية، والموارد محدودة، وأحياناً يكون الوصول إلى الضحايا مخاطرة تهدد حياة المعالجين أنفسهم. يبقى الدعم المقدم مؤقتاً، أقرب إلى ضمادة سريعة لوقف نزيف الألم وليس لمعالجته.
مع انتهاء العدوان، يجد الناجون أنفسهم في مواجهة مع واقع جديد. الأطفال الذين عاشوا الخوف يصبحون أكثر عرضة للكوابيس والأرق، والنساء اللواتي تحملن عبء الحرب يبدأن في مواجهة انهيار نفسي متأخر. أما الرجال، فيشعرون بعبء الفقدان أو بالعجز أمام إعادة بناء ما دُمّر.
تبدأ الأعراض النفسية بالظهور تدريجياً: اضطرابات النوم، فقدان الشهية، العزلة الاجتماعية، والقلق المفرط. المجتمع بأكمله يعيش حالة من الصدمة الجماعية، حيث تصبح آثار الحرب النفسية جزءاً من الحياة اليومية.
ونعلم أن الحروب لا تترك أثرها فقط على الأفراد، بل تضرب النسيج المجتمعي في الصميم. قد يؤدي العدوان المتكرر إلى تآكل الروابط الاجتماعية التي كانت تشكل الحصن الأول للمجتمع في وجه الأزمات. فقدان الأحباب والتهجير القسري يضعف العلاقات بين الأسر ويخلق فجوات نفسية بين الناجين. الشعور بالعجز واليأس قد يدفع البعض إلى الانعزال أو اللجوء إلى سلوكيات سلبية تؤثر على التماسك الاجتماعي، مثل العنف الأسري أو الإدمان.
كما أن الضغوط النفسية الكبيرة قد تؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل المجتمع، حيث يشعر البعض بالخذلان من العالم ومن النظام السياسي أو الاجتماعي، ما يخلق حالة من عدم الثقة المتبادلة. هذه التأثيرات لا تقتصر على زمن الحرب فقط، بل تمتد إلى سنوات طويلة، ما يتطلب جهوداً مكثفة لإعادة بناء العلاقات الاجتماعية واستعادة الإحساس بالانتماء والتضامن. معالجة هذه الجروح المجتمعية تعد جزءاً أساسياً من رحلة التعافي النفسي الشامل في غزة.
التاريخ مليء بالأمثلة التي توضح كيف أن الأثر النفسي للحروب لا ينتهي بانتهاء القتال. في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، استغرقت الشعوب سنوات طويلة لمعالجة الصدمات النفسية الناجمة عن الدمار. وفي البوسنة، استمرت آثار الحرب النفسية لعقود بعد انتهاء الصراع. أما في غزة نفسها، فقد أظهرت الدراسات بعد العدوان الإسرائيلي عام 2014 أن الأطفال الذين فقدوا منازلهم أو ذويهم كانوا الأكثر تأثراً باضطرابات نفسية طويلة الأمد.
بعد وقف إطلاق النار، يصبح توفير برامج دعم نفسي شاملة ومستدامة أولوية قصوى. هذا الدعم لا يمكن أن يقتصر على المساعدات الفردية، بل يجب أن يشمل المجتمع بأسره. المراكز المجتمعية يمكن أن تكون ملاذاً آمناً للأطفال للعب والتعبير، وللنساء والرجال للحصول على الدعم الجماعي الذي يساعدهم على استعادة توازنهم النفسي.
تدريب كوادر محلية من الأطباء والمعالجين النفسيين هو خطوة أساسية لبناء قدرات طويلة الأمد داخل المجتمع. كذلك، يمكن للفنون والمسرح أن تكون أدوات فعالة للتعبير عن الصدمة، وهو أمر أثبت الفلسطينيون قدرتهم عليه في تعزيز صمودهم الجماعي.
بالطبع، الطريق ليس سهلاً. ندرة الموارد، استمرار الاحتلال، والانقسامات السياسية تجعل العمل النفسي تحدياً كبيراً. لكن التحدي الأكبر يكمن في تغيير المفاهيم الاجتماعية حول الصحة النفسية، وإيصال الرسالة بأن العلاج النفسي ليس رفاهية بل ضرورة حتمية لاستعادة الحياة.
العلاج النفسي بعد وقف إطلاق النار ليس مجرد أداة لتخفيف الألم، بل هو نافذة لإعادة بناء الروح وإحياء الأمل في النفوس.
في غزة، الصمود ليس فقط في مواجهة الدمار، بل في قدرة الإنسان الفلسطيني على الوقوف من جديد، مهما بلغ الجرح عمقاً. حين تلتئم الجراح النفسية، تنبض الحياة في العروق، وتصبح النفوس أقوى من كل محاولات الطمس والقهر.
إن شفاء النفوس هو بداية شفاء الوطن، والوطن الذي يشفي جراح روحه لن يُهزم أبداً.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
تغييب وترهيب
حديث القدس
الرئيس ترمب والتهجير والاستيلاء على غزة
فراس ياغي
أحمل نعشي على كتفي وأمشي وأمشي
عيسى قراقع
زيارة 1987.. عن مخيم الفارعة وصوت الشيخ إمام ويويا وإرهاصات الانتفاضة
توفيق العيسى
أوهام ترمب.. إعلان حرب
حديث القدس
هجوم "الصدمة والرعب".. هل يحقق أهدافه؟
جيمس زغبي
لقاء نتنياهو مع ترامب
حمادة فراعنة
من يأخذ قلم ترامب من يده؟
بهاء رحال
مشروع ترامب للتطهير العرقي.. استهداف لفلسطين قضية وهوية
راسم عبيدات
اليوم الإسرائيلي - الأمريكي التالي لغزة والضفة
نبهان خريشة
المجنون!
ابراهيم ملحم
حرب ترامب الاقتصادية
حمادة فراعنة
العالم على كف "رئيس"
منظمة التحرير وشرعية التمثيل الوطني في الميزان الفلسطيني !!
محمد جودة
عندما يتحمل الفلسطيني المستحيل
حديث القدس
المشهد الراهن والمصير الوطني
جمال زقوت
الخيار العسكري الإسرائيلي القادم
راسم عبيدات
ترامب في خدمة القضية الفلسطينية!!
د. إبراهيم نعيرات
ما المنتظر من لقاء نتنياهو وترامب؟
هاني المصري
زكريا الزبيدي تحت التهديد... قدّ من جبال فلسطين
حمدي فراج
الأكثر تعليقاً
ترامب: الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة وتصبح مالكة له

العالم على كف "رئيس"

هل وصلت الرسالة إلى حماس؟

"حماس" تطالب بعقد قمة عربية طارئة لمواجهة مشروع التهجير

الرئيس عباس يصدر قراراً بإعادة تشكيل مجلس إدارة مجلس تنظيم قطاع المياه

أحمل نعشي على كتفي وأمشي وأمشي

الرئيس ترمب والتهجير والاستيلاء على غزة

الأكثر قراءة
ترامب: الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة وتصبح مالكة له

"الأونروا": الوضع في مخيم جنين كارثي وجميع سكانه نزحوا

الرئيس عباس والقيادة الفلسطينية يعربان عن رفضهما لدعوات الاستيلاء على قطاع غزة

"العفو الدولية": ترمب يضاعف ترحيبه بنتنياهو بعدم اعتقاله أو إخضاعه للتحقيق
ترامب: لا ضمانات لدي أن الهدنة بين إسرائيل وحماس ستصمد

نتنياهو يهدي جهاز بيجر لترامب والأخير يعلق
العالم على كف "رئيس"


أسعار العملات
الخميس 06 فبراير 2025 8:54 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.55
شراء 3.54
يورو / شيكل
بيع 3.67
شراء 3.68
دينار / شيكل
بيع 5.01
شراء 5.0
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 574)
شارك برأيك
بعد وقف اطلاق النار: المعركة النفسية لا تنتهي