أقلام وأراء
الثّلاثاء 23 يوليو 2024 9:10 صباحًا - بتوقيت القدس
الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية مُهم مضموناً وتوقيتاً.. نحو استراتيجية دبلوماسية وحقوقية جديدة
تلخيص
في خطوةٍ تاريخيةٍ ومهمة، أصدرت محكمة العدل الدولية يوم الجمعة 19-7-2024 قرارها الاستشاري بشأن التبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية. باختصار، القرار اعتبر استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية غير شرعي، وطالب بإنهائه بشكل كامل وغير مشروط، وتعويض الفلسطينيين عن نهب المصادر، وإزالة المستوطنات، وهدم الأجزاء من الجدار الواقعة في داخل الأراضي المحتلة سنة 1967.
يكتسب القرار أهميةً خاصة، ليس فقط من حيث مضامينه المهمة والواضحة بشأن مختلف الجوانب القانونية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي، ولكن أيضاً من جهة توقيته. فقد جاء في ظروف حرجة في ظل تزايد الهجمة الاستيطانية وتسابُق حكومة الاحتلال مع الزمن لفرض مزيدٍ من الوقائع على الأرض، وبعد يومين فقط من مصادقة الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون يمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بعد هذا القرار؟ وكيف يمكن استثماره لخلق تغيير حقيقي على الأرض؟ فقد سبقت هذا القرارَ قراراتٌ أُخرى وُصفت في حينه بأنها تاريخية، مثل الرأي الاستشاري الصادر عن ذات المحكمة في سنة 2004 بخصوص جدار الفصل العنصري، وقرار المحكمة ذاتها بخصوص التدابير الاحترازية لوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لكن لم يتغير شيء بعد هذه القرارات، بل إن الوضع ازداد سوءاً على الأرض.
وللإجابة عن هذا السؤال يجب فهم طبيعة القانون الدولي، الذي يقوم على فكرة سيادة الدول، وعدم وجود سلطة أعلى من الدول، وغياب آليات إنفاذ للقانون الدولي ولقرارات محكمة العدل الدولية مستقلة عن إرادة الدول. فالقانون الدولي قانون رضائي، يقوم على موافقة الدول نفسها على إنفاذه والخضوع لأحكامه. كما يجب أيضاً فهم مكانة المنظمات متعددة الأطراف في السياسة الدولية، التي تراجعت بشكل كبير بعد الحرب الباردة، وأصبحت العلاقات الثنائية بين الدول هي العامل الحاسم في العلاقات والسياسة الدولية، وليس ما تقرره المنظمات الدولية.
العمل في الأُطر المتعددة وعلى المستوى الثنائي
حققت الدبلوماسية الفلسطينية إنجازات مهمة في إطار المنظمات متعددة الأطراف، خاصة بعد سنة 2012، سواء على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو مجلس حقوق الإنسان، وحتى مجلس الأمن، إضافة إلى اكتساب العضوية الكاملة في منظمات مهمة، مثل الإنتربول واليونسكو وغيرهما. وحصلت فلسطين على قرارات مهمة من المؤسسات القانونية والقضائية الدولية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لكن لم تتم ترجمة هذه القرارات إلى شيء ملموس على الأرض، ولم تشكل هذه القرارات، على أهميتها، أيّ ضغطٍ جديّ على إسرائيل لتغيير سلوكها ووقف جرائمها.
في المقابل، إسرائيل التي تعاني عزلةً مُتزايدةً في المنظمات الدولية تنجح بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز علاقاتها الثنائية، بما في ذلك مع الدول التي تُصوت لصالح فلسطين. وقد حققت إسرائيل اختراقات كبيرة ومهمة في الفترة الأخيرة، بما في ذلك إقامة علاقات دبلوماسية مع دول عربية، وتعزيز علاقاتها مع دول أفريقية، وبناء تحالف قويّ مع الهند، التي كانت تاريخياً تقف إلى جانب الحقوق الفلسطينية، فضلاً عن علاقاتها الراسخة مع الدول الأوروبية وأمريكا. وهذه العلاقات مبنيةٌ بالدرجة الأُولى على المصالح، كما أنها تحمي إسرائيل من أيّ محاسبةٍ جديةٍ أو عقوباتٍ أو ضغوطات.
تعطي الأُطر المتعددة والمنظمات الدولية، بما فيها أيضاً المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، مجالاً مريحاً للدول لدعم فلسطين دون أي تكلفة أو تبعات. فكثير من الدول تقف إلى جانب فلسطين في الأُطر متعددة الأطراف، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتصوت لصالح القرارات التي تدعم الحقوق الفلسطينية، لكنها في الوقت ذاته تُقيم علاقات ثنائية قوية مع إسرائيل تشمل التبادل التجاري والثقافي والتعاون الأمني والعسكري أحياناً. هذا التناقض، أو بالأحرى النفاق، في مواقف الدول، يتطلب من الجانب الفلسطيني تبني استراتيجية جديدة تركز على تحويل الدعم الذي تبديه الدول في المنظمات الدولية إلى مواقف في علاقات هذه الدول الثنائية مع إسرائيل. والانتقال من التركيز على المنظمات الدولية، إلى التركيز على الدول لدفعها باتجاه اتخاذ قرارات ومواقف تجاه إسرائيل في علاقاتها الثنائية، وليس فقط الأُطر المتعددة.
الانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل الدبلوماسي
خلقت حرب الإبادة على قطاع غزة واقعاً جديداً كشف الوجه الحقيقي الإجرامي للاحتلال الإسرائيلي، وحرّك ضمائر الشعوب في مختلف دول العالم، وقد جاء قرار العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ليضع إسرائيل في مصافّ الدول التي ارتكبت جريمة الجرائم وهي الإبادة الجماعية. هذا الواقع المؤلم، الذي يدفع فيه الفلسطينيون ثمناً كبيراً من أموالهم وأنفسهم، يخلق فرصاً مهمة يجب استثمارها للتحرك. كما أن القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الأخير يفتح آفاقاً جديدةً وواسعةً في هذا الإطار، خاصة ما جاء في القرار بخصوص التزامات الدول الأُخرى، حيث نص على أن واقع الاحتلال وممارساته العنصرية في فلسطين يُرتب التزاماً قانونياً على جميع الدول تجاه ما يجري في فلسطين، فعليها أولاً أن لا تعترف بأيّ وقائع خلقتها إسرائيل في الأراضي المحتلة سنة 1967، وأيضاً عليها التزامات باتخاذ إجراءات لإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي الإنساني. واعتبرت المحكمة أن هذا الالتزام ملزم للجميع، حتى تلك الدول التي ليس لها أي اتصال مباشر بما يجري في فلسطين.
هناك الكثير الذي يمكن عمله على المديين القصير والبعيد. فعلى المدى القصير يجب التحرك والتواصل مع الدول، لدفعها لاتخاذ إجراءات وفق القرارات التي صوتت هي عليها في الأُطر المتعددة. على سبيل المثال، في اجتماع القمة العربية الأخير في البحرين في مايو/ أيار الماضي، أقرت القمة عدداً من القرارات والتدابير من ضمنها إدراج مؤسسات استيطانية وشخصيات إسرائيلية على قوائم الإرهاب في الدول العربية، واتخاذ إجراءات قانونية ضد بعض الشخصيات الإسرائيلية التي تُحرّض على الإبادة الجماعية في المحاكم الوطنية في الدول العربية. كما أقرت القمة مقاطعة الشركات العاملة في المستوطنات الإسرائيلية والمدرجة ضمن اللائحة السوداء الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان، واتخاذ إجراءات قانونية بحقها. لكن، حتى هذه اللحظة لم تنفذ أي دولة عربية هذه القرارات ضمن قوانينها وتدابيرها الداخلية. أيضاً الدول التي صوتت في مجلس حقوق الإنسان لصالح إنشاء القائمة السوداء بالشركات التي تتعامل مع المستوطنات لم تقم هي نفسها (في أغلبها) باتخاذ إجراءات بحق هذه الشركات.
أما على المدى الأبعد، فيجب تعزيز بناء التحالفات مع المجتمع المدني في الدول التي تعمل فيها السفارات والممثليات الفلسطينية، وأن تقيم التحالفات مع القوى الحية والمنظمات الحقوقية من أجل العمل المنظم للضغط على حكوماتها لتغيير سلوكها. وأيضاً، يمكن دعم جهود التقاضي الاستراتيجي في الدول التي توجد فيها تشريعات تمنع تصدير أسلحة للدول أو الكيانات التي تخالف القانون الدولي. وهنا يمكن الإشارة إلى القضية الناجحة في هولندا، حيث منعت المحكمة حكومة بلادها من تصدير قطع غيار ومعدات لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
كذلك يجب أن ينتقل تركيز الدبلوماسية الفلسطينية من العمل على إقناع الدول بالاعتراف بفلسطين (مع أهمية الاستمرار بهذا المسار) إلى اقناعها باتخاذ إجراءات وتدابير ضد إسرائيل ومشروعها الاستيطاني، وفق التزاماتها القانونية التي أكدتها محكمة العدل الدولية، سواء في قرارها الخاص بجنوب أفريقيا أو في رأيها الاستشاري الأخير.
هذه الخطوة تتطلب دبلوماسية فعّالة وموجهة وجهوداً مستمرة، ومراجعة شاملة لأدوات الدبلوماسية الفلسطينية، وتعزيز كوادر السفارات بكفاءات شابة ومتصلة مع العالم وتجيد لغات الدول المستضيفة، وأيضاً تعزيز علاقة الخارجية الفلسطينية مع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني العاملة في مجال المناصرة الدولية والتقاضي الاستراتيجي حول العالم.
في الختام، فإن القرار الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية يُمثّل خطوةً مهمةً في تعزيز الحقوق الفلسطينية على الساحة الدولية. لكن، لتكونَ هذه الخطوة ذات تأثير فعلي، يجب على فلسطين تطوير استراتيجيتها الدبلوماسية، والانتقال من المستوى المتعدد إلى المستوى الثنائي، والعمل بجدية على استثمار القرارات الدولية في العلاقات الثنائية مع الدول الأُخرى، لضمان تحقيق أهدافها الوطنية واستعادة حقوقها المشروعة.
يجب أن ينتقل تركيز الدبلوماسية الفلسطينية من العمل على إقناع الدول بالاعتراف بفلسطين (مع أهمية الاستمرار بهذا المسار) إلى إقناعها باتخاذ إجراءات وتدابير ضد إسرائيل ومشروعها الاستيطاني، وفق التزاماتها القانونية التي أكدتها محكمة العدل الدولية.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
شتاء غزة.. وحل الحرب وطين الأيام
بهاء رحال
المقاومة موجودة
حمادة فراعنة
وحشية الاحتلال بين الصمت الدولي والدعم الأمريكي
سري القدوة
هوكشتاين جاء بنسخة لبنانية عن إتفاق أوسلو!
محمد النوباني
ماذا وراء خطاب نتنياهو البائس؟
حديث القدس
مآلات موافقة حزب الله على ورقة أمريكا الخبيثة
حمدي فراج
الأكثر تعليقاً
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
أبو الغيط: الوضع في فلسطين غير مقبول ومدان ولا يجب السماح باستمراره
مصطفى: الصحفيون الفلسطينيون لعبوا دورا محوريا في فضح جرائم الاحتلال
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
5 إصابات وحرائق في تل أبيب جراء سقوط صاروخ من لبنان
الأكثر قراءة
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
الأونروا: فقدان 98 شاحنة في عملية نهب عنيفة في غزة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
زقوت في حوار شامل مع "القدس".. خطة حكومية لوضع دعائم بناء دولة مستقلة
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
أسعار العملات
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 9:43 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.74
شراء 3.73
دينار / شيكل
بيع 5.28
شراء 5.26
يورو / شيكل
بيع 3.96
شراء 3.95
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%54
%46
(مجموع المصوتين 80)
شارك برأيك
الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية مُهم مضموناً وتوقيتاً.. نحو استراتيجية دبلوماسية وحقوقية جديدة