Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

ازدواجية المعايير في التعامل مع الضحايا: لماذا يُسمع صوت البعض ويُتجاهل الآخرون؟

الأحد 16 مارس 2025 7:25 مساءً - بتوقيت القدس

نوح ترتريان

في عالم يُفترض أن تُصان فيه حقوق الإنسان دون تمييز، تبدو بعض المبادئ بديهية وغير قابلة للنقاش:
1. حياة المدنيين مقدسة، بغض النظر عن دينهم، جنسهم، أو موقعهم الجغرافي.
2. العدالة لا يجب أن تكون انتقائية، فجميع الضحايا يستحقون الاعتراف بمعاناتهم بغض النظر عن الجهة التي تسببت فيها.
3. حقوق الإنسان عالمية، ولا ينبغي أن تخضع لمصالح سياسية أو تحالفات دولية.
4. الشفافية والمساءلة ضرورية، فلا يجوز التغاضي عن الانتهاكات عندما تكون الجهة المسؤولة حليفًا للقوى الكبرى.

هذه المبادئ ليست شعارات جوفاء، بل تمثل الأسس التي بُني عليها القانون الدولي الإنساني، وأقرتها الأمم المتحدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، حيث نصت المادة الأولى على أن “جميع البشر يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق”، بينما تؤكد المادة الثالثة على أن “لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي”.

لكن، هل يُطبق العالم هذه المبادئ بعدالة؟ أم أن هناك ضحايا تُسمع صرخاتهم، بينما يُطوى الآخرون في صمت دولي؟
في كل صراع يطوي صفحة نظام قمعي، هناك ضحايا تتصدر عناوين الصحف، وأخرى تُترك خلف الستار. هناك دماء يُبكى عليها في القاعات الدبلوماسية، ودماء تُعتبر مجرد “أضرار جانبية” لا تستحق التحقيق أو حتى الاعتراف. من المفترض أن يكون العالم الحديث قائمًا على قيم العدالة والإنصاف، لكن الواقع يُظهر غير ذلك: من يُقتل على يد الثوار يُنعى على صفحات الجرائد، ومن يسقط تحت رصاص الفلول يُلقى في النسيان.

ليس الأمر مجرد خلل في التغطية الإعلامية، بل هو نمط تاريخي متكرر. فمن الثورة الفرنسية إلى الحروب الأهلية الحديثة، كانت هناك دائمًا أنظمة سقطت، لكن بقاياها لم تستسلم، بل عادت بسلاحها، قتلت بلا رحمة، وأثارت الفوضى، بينما كان العالم ينظر في الاتجاه الآخر.

عندما أسقط الإسبان الملكية وأقاموا جمهوريتهم في الثلاثينيات، كان العالم يتحدث عن فجر جديد للديمقراطية. لكن حينما تحركت فلول الجيش بقيادة فرانشيسكو فرانكو، وبدأت بإبادة المعارضين، صمتت القوى الكبرى، أو اكتفت بالمراقبة. الحرب الأهلية التهمت مئات الآلاف، والمشانق نصبت، والأرامل ملأن الشوارع. أين كانت الإدانات العالمية؟ لم تكن هناك لجان تحقيق دولية، لم يُفرض حصار، لم تُلغَ العقود التجارية مع إسبانيا بعد انتصار فرانكو، بل استمر حكمه حتى السبعينيات، وظلت الضحايا مجرد ذكريات في أرشيف منسي.

في الخمسينات، عندما انتفض المجريون ضد الحكم الشيوعي، لم تكن معركتهم ضد نظام وحسب، بل ضد دولة عظمى تقف خلفه. سحق السوفييت الثورة بالدبابات، وقتلوا الآلاف في الشوارع. لم يُعقد مجلس أمن طارئ، لم تُفرض عقوبات على موسكو، ولم ترسل الصحف الغربية مراسليها ليحصوا جثث الطلبة في ساحات بودابست. كانت أرواحهم أقل قيمة، لأن قاتلهم كان القوة التي تُحسب لها الحسابات الجيوسياسية.

عندما تفككت يوغوسلافيا، لم يكن الأمر مجرد أزمة حدود، بل كان حمام دمٍ على أساس الهوية. ذُبح مسلمو البوسنة في سربرنيتسا، والقتلة كانوا جنود النظام السابق الذي لم يقبل بسقوط يوغوسلافيا. لم تكن عمليات قتل متفرقة، بل إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة. كم سنة احتاجها العالم ليقرر التدخل؟ أكثر من ثلاث سنوات، بينما كانت الجثث تُحفر في مقابر جماعية، والتقارير تُكتب وتُرسل إلى العواصم، حيث تُوضع على الطاولات ثم تُدفن في أدراج النسيان.

في المقابل، عندما تتولى حكومة جديدة السلطة بعد إسقاط نظام قمعي، تُصبح كل قطرة دم تُسفك تحت حكمها مادةً للتحقيقات الدولية والتغطيات الإعلامية المتواصلة. إذا حاول الثوار حماية أنفسهم من فلول النظام السابق، يُتهمون بالقمع والتصفية، حتى وإن كانت الأيادي التي يواجهونها هي ذاتها التي قتلتهم بالأمس.

عندما سقط القذافي، لم يترك أنصاره السلاح، بل عادوا ليشعلوا حربًا أهلية قتلت الآلاف. لكن من حُمل المسؤولية؟ لم تكن الميليشيات المتحالفة مع النظام السابق، بل الحكومة الجديدة التي وُلدت في وسط الفوضى. وبينما كانت الغارات الجوية تُشن، والمرتزقة يُرسلون، كانت أصابع الاتهام تتوجه للحكومة الوليدة، وكأن من أشعل النار ليس من أُطيح به، بل من يحاول بناء الدولة من أنقاضه.

عندما شنت القوات الأمريكية هجومًا واسعًا على مدينة الفلوجة العراقية بحجة القضاء على المتمردين، قُتل آلاف المدنيين، واستخدمت القوات الأمريكية الفسفور الأبيض، مما تسبب في إصابات وحروق مروعة. تجاهلت معظم وسائل الإعلام الغربية حجم المجازر أو قللت من شأنها. وبررت الولايات المتحدة العملية باعتبارها “حربًا على الإرهاب”، رغم التقارير الحقوقية عن جرائم حرب. لم يُحاسب أي مسؤول أمريكي على المجازر.

ثم إذا كانت الحكومة الجديدة محسوبة على تيار إسلامي، فإن قواعد اللعبة تصبح أكثر حدة. لا يكفي أن تحكم بعدالة، بل عليك أن تثبت أنك “مؤهل” للسلطة، وفق معايير تحددها العواصم الغربية. سقوط المدنيين تحت حكمك يصبح كارثة أخلاقية عالمية، حتى لو كان جيش النظام السابق هو من يقتلهم، أما سقوط المدنيين في الحروب الغربية أو على يد الحكومات العميلة، فهو مجرد “أخطاء مأساوية”.

فجأة، تصبح الحكومة متهمة بعدم الأهلية، وتصير أي حادثة عذرًا للاتهام بالفوضى والتطرف. الدول الكبرى، التي دعمت أنظمة قمعية لعقود، تلبس رداء المدافع عن حقوق الإنسان، لكنها لا تراه حين يكون القاتل حليفًا لها. الإعلام الغربي، الذي تجاهل مذابح بحق شعوب كاملة، يُفتح أمامه كل الأبواب لتغطية “فشل الإسلاميين” في الحكم، وكأن الطريق إلى الاستقرار لم تُلغمه بقايا النظام نفسه، وكأن الديمقراطية ليست حقًا، بل امتيازًا يُمنح لمن يقبل البقاء تحت المظلة الغربية.

النظام العالمي الحديث لا يعامل جميع الضحايا على قدم المساواة. إن كنت مدنيًا سقطت تحت رصاص حكومة حليفة للغرب، فأنت مجرد رقم في تقرير ثانوي. أما إن كنت مدنيًا في دولة “غير مرغوبة”، فسيُفتح ملفك في الأمم المتحدة، وسيُعقد لك مؤتمر صحفي، وستُفرض العقوبات على قاتلك.

هذه ليست دعوة لتبرير القمع، ولا تبرئة الحكومات الجديدة من الأخطاء، بل تساؤل عن عدالة يتم تفعيلها ضد طرف وتعطيلها ضد آخر. إن كان العالم جادًا بشأن حقوق الإنسان، فلا يجب أن تكون الضحية مهمة فقط عندما يخدم موتها السياسة، ولا يجب أن يُمنح القتلة حصانة لمجرد أنهم يرتدون الزي الصحيح.
الرحمة لجميع شهداء الوطن الجريح، الدماء التي سالت ليس بمختلفةٍ عن تلك خلال سنوات الثورة..فلنطالب بمحاسبة قاتليهم، لكن شيطنة السوريين الثوار سيكون بمثابة أخر مسمار في نعش هذا الوطن الذي يجب ويمكن أن يتسع للجميع.
عاشت سوريا حرة أبية.

إقرأ المزيد لـ نوح ترتريان ...

شارك برأيك

ازدواجية المعايير في التعامل مع الضحايا: لماذا يُسمع صوت البعض ويُتجاهل الآخرون؟

أسعار العملات

الخميس 17 أبريل 2025 1:14 مساءً

دولار / شيكل

بيع 3.69

شراء 3.68

دينار / شيكل

بيع 5.2

شراء 5.19

يورو / شيكل

بيع 4.19

شراء 4.18

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 1077)