تابعنا الأخبار وسمعنا أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابنيت) صادق على مقترح "سموتريتش" بفصل بؤر وأحياء استيطانية عن مستوطناتها "الأم" في الضفة الغربية، والبدء بإجراءات الاعتراف بها كمستوطنات مستقلة.
شملت القائمة بؤراً استيطانية من الشمال إلى الجنوب، وكما هو معلوم، يأتي هذا بالتوازي مع المصادقة على عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية في مستوطنات الضفة الغربية، وهذا ما يؤكد أنه تكريس لواقع جديد، ويهدف فيما يهدف إليه أيضاً، إلى "دفن" إمكانية قيام دولة فلسطينية موحدة ومتصلة جغرافياً.
فالقرار الإسرائيلي بفصل 13 مستوطنة والاعتراف بها كمستوطنات مستقلة، يعيد إنتاج مشاريع التفكيك الإداري، ويضع السلطة الفلسطينية أمام خيارات ضيقة في ظل تآكل حل الدولتين، وبالتالي "يقضي" تماماً على حلم الدولة الذي قامت على أساسه العملية السياسية برمتها، منذ عام 1993 وحتى يومنا هذا، فلطالما كان هو الركيزة الأساسية، الاستراتيجية والخيار الوحيد لمشروع منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى "المجتمع الدولي"، تجاه الاحتلال القائم بقوة الأمر الواقع، والتي برغم كل ما حدث ويحدث، من مجازر وحصار وتجويع، وبرغم الهدم والتشريد، لا يزال يسمى "الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي"، بعد أن كان يُعرف سابقا بـ"الصراع العربي – الإسرائيلي".
كان لافتاً أيضاً هذا الأسبوع ما قاله مستشار ترامب ستيف ويتكوف، الذي لم يُقر كما لم يستبعد حل الدولتين، أي بما معناه أنه لم يعد على ثقة تامة بإمكانية تطبيقه في الظروف الحالية، مما يعكس تزايد الاعتراف الدولي بتعقيدات الواقع القائم، وحتى لو رأى ترامب وفريقه إمكانية ذلك، فلا إطار زمني يحكمه، ثم إن المتطلبات التي تسبقه - كما يرونها – كثيرة وكثيرة جداً، وقد تحتاج إلى جيل كامل، خاصة تلك المتصلة بموضوع المناهج، وللحد من ما يسمونه "تطرف" الجيل القادم من الشباب الفلسطيني، فضلاً عن أنهم يتبنون رؤية مختلفة حول تقاسم الأدوار، ما قد يجعل الحل الذي يدور الحديث عنه في أروقة البيت الأبيض، لا يتشابه مع ما نعرف إلا بالأسماء، بينما جوهره مختلف كلياً.
وفي سياق آخر متصل، شاهدنا قادة المستوطنين في الضفة الغربية يستقبلون في دولة الإمارات العربية، في سعي منهم لـ"تجميل" وجه الاستيطان، والقول بأنه أصبح جزءاً من "الواقع" الذي يجب القبول به، عربياً أولاً، ثم عالمياً، رغم القرارات الأممية التي اعتبرته غير شرعي، أو مكونا من مكونات الاحتلال، أو أنه لا بد أن يكون أول الراحلين معه، وبالتالي يعمل قادة منظمات المستوطنين في الضفة الغربية لفك أي ارتباط بين الاستيطان وأي اتفاقيات مستقبلية، لضمان ألا يكون الاستيطان هو العقبة أو "الثمن" ليمضي "قطار" التطبيع قدماً.
هذه المنظمات ذاتها التي تروج - داخلياً وخارجياً - لفكرة تتجاوز حل الدولتين تماماً، فهي ترى - الآن وكما في السابق - أن هذا الحل لم يعد ممكناً، وتسعى لطمأنه أمة العرب بأن تهجير الفلسطينيين ليس خياراً مطروحاً، ولا تمكينهم أيضاً، ولكن بالمقابل، ترى أن حلاً "مبتكراً" بين هذين ممكن، يقوم على إعادة "هيكلة" الضفة الغربية وتقسيمها إلى "كيانات" إدارية صغيرة، وتفكيك النظام المركزي، ومنح كل مدينة حق إدارة شؤونها المحلية تحت إشراف الاحتلال، وبالشكل الذي يشبه إلى حد بعيد تجربة "روابط القرى" في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي رفضت حينها باعتبارها أداة لتفتيت الهوية الفلسطينية وتقويض حلم الدولة، وسقطت تحت أقدام طلاب الجامعات في انتفاضة العام 1982، ورغم أنه لم يكتب لها الحياة حينها، إلا أنها لم تفارق مخيلة قادتهم، جيلاً بعد آخر، حتى عندما كانت توقع الاتفاقات وتبرم التفاهمات لاحقاً مع منظمة التحرير، كانت بمثابة محاولات لشراء الوقت، من أجل تغيير الواقع وفرض الحقائق على الأرض، وهذا ما حدث طوال أكثر من ثلاثة عقود، الأمر الذي أوصل الضفة الغربية إلى حالة غير مسبوقة، من حيث الوجود العسكري والسيطرة الأمنية وعمليات القتل والتشريد، فضلاً عن الوجود الاستيطاني وتحولاته، وما وصل إليه من مراحل متقدمة جداً، جعلته ينتقل من حالة "الدفاع" إلى الهجوم، أي مهاجمة الفلسطينيين في قراهم، واستهداف أرواحهم وإحراق ممتلكاتهم جهاراً نهاراً، فيما تُرك الفلسطينيون يواجهونهم عُزلا، وبلا أية حماية.
لا يحتاج المحلل إلى كثير من الجهد ليفهم أن كل ذلك يأتي ضمن مسار يسعى لتثبيت السيطرة الإسرائيلية الفعلية على الضفة الغربية، وإعاقة أي محاولة مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية - أي دولة - وأن تكريس مثل هذه الوقائع الجديدة على الأرض يُقلل إلى حد كبير، بل ربما يقضي تماماً على مساحة المناورة الفلسطينية في ظل حالة الانقسام والتشتت والضياع التي يعيشها الفلسطينيون، ويجعل من حل الدولتين أمراً بعيد المنال، أكثر من أي وقت مضى.
إن الاستمرار بالتعويل على حل الدولتين دون حتى مجرد التفكير باستراتيجية أو خيارات بديلة، يضع الفلسطينيين أمام تحديات وجودية، ففي ظل هذا الواقع، ومع ما يُطرح حالياً وبقوة من سيناريوهات، سواء بإمكانية انهيار السلطة أو تفككها أو تحولها إلى مجرد إدارات محلية منفصلة، وهو ما تريده المنظمات الاستيطانية التي تسعى لإضفاء شرعية دولية وعربية على مخططاتها، فإن مستقبل القضية الفلسطينية في ضوء هذه التطورات أصبح أكثر تعقيداً وغموضاً، مما يتطلب اتخاذ خطوات جادة وسريعة لمنع تحول الوقائع الجديدة إلى واقع غير قابل للتغيير.
.............
إن الاستمرار بالتعويل على حل الدولتين دون حتى مجرد التفكير باستراتيجية أو خيارات بديلة، يضع الفلسطينيين أمام تحديات وجودية.
شارك برأيك
"الكابنيت" يفصل ويثبت.. والسلطة تواجه أشباح الماضي