Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الأحد 29 ديسمبر 2024 9:56 صباحًا - بتوقيت القدس

كمال عدوان ينهض من مقبرة الشهداء... ويردد: الفلسطيني لا يُلدغ من نكبةٍ مرتين



لم يختنقْ في خزانِ المياه، بل قرع الجدرانَ وأسقط أعوامًا كاملةً بداخله، وأفاق من موتِهِ، يشحذُ الجسدَ من حدقاتِ الغيابِ العابرِ للمعاني، نفض كومةً من العَتمةِ تلتصِقُ بثيابِهِ، ورتب ساقَيهِ إلى جانبَي بعضِهما ونهض، كانت الساعةُ تَمضي نحو الخامسةِ مساءً، والشمسُ تواصلُ ما تبقّى لها نحوَ الغسق.

لقد أبصر كمال عدوان المدينةَ المتشظِّية، وهو الذي كان يظنُّ نفسَهُ ما زال في العام 1973، سار على رؤوسِ أصابعِ قدميه وهو يتجوَّلُ بين الشواهدِ في مَقبرةِ الشهداءِ في بيروت، هنا يرقُدُ غسان كنفاني، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، وعلي سلامة، وماجد أبو شرار، وهناك نُصبٌ تَذكاريٌّ لشهداءِ مجزرةِ تلِّ الزعتر، وبالقربِ منها قبرٌ جماعيٌّ عليه نُصبٌ تَذكاريٌّ لشهداءِ مجزرةِ صبرا وشاتيلا، قرأ فاتحةَ الكتابِ وهو يتفحَّصُ المكانَ بعينينِ من قلق، همَّ ليُغادِرَ رَغمَ كلِّ ما في قلبِهِ من ثقل.

امتطى ساقَيهِ وتجاوز الأسوارَ المُحيطة، وهو يُجدِّدُ رفضَهُ أن يتحوَّلَ هذا الشَّعبُ إلى تابوت، وفي نفسِهِ يُردِّدُ هل عاد شعبي من هجرتِهِ ونزوحِهِ، زاد من سرعتِهِ وهو يقطعُ المِسافةَ الفاصلة بين أرضِ بيروت، وما بعدها، حتى الهواءِ في الجنوب ليُطِلَّ على صفد، بات يُفكِّرُ كيف لي أن أصلَ لقريتي بربرة التي تقعُ إلى الجنوبِ من المجدل (مجدل عسقلان)، وعلى الطريقِ بينَها وبين غزة.

ها هي سراديبُ الطريقِ تنطوي تحت قدميه، يمتشِقُ الرّيحَ، ويتجاوزُ كلَّ الأسوارِ والأسلاكِ الشائكةِ والحواجز، الآن تحقَّقت النبوءة، وصل عسقلان التي حرَّموها عليه بعد أن اقتصُّوا عمرَهُ في شارعِ فردان ببيروت قبل 51 عامًا.

 وفجرًا، عبَّأ قلبَهُ بالأمنيات، لينتهيَ به عام 2024 في غزة، رأى من بعيدٍ صيّادًا قرب البحر، لوَّحَ له بيديه، جاءه يجُرُّ جسدًا متهالِكًا، ظنَّه كمال عدوان متعَبًا، تبادلا التحية، ومن ثُمَّ سأله الصيادُ إلى أين تذهب؟ أجابه إلى غزة، تمَلَّكت الدهشةُ قلبَ الصياد، وقال له لم يعُدْ هناك غزة، وكلُّ ما فيها بقايا جثامينَ تأكلُها الحيواناتُ الضالة، استجمع كمال عدوان وعيَهُ، وتسارعت نبضاتُ القلبِ ليشتعِلَ الدَّمُ في أوردةِ الثائرِ القادمِ من الموت.

الشَّمسُ تَشُقُّ غيمةً تتوسَّطُ السماء، وهما يجتازانِ المِسافاتِ بين مدينةٍ وأخرى، يُقلِّبُ قصائدَ لوركا المتفرِّقةَ في حبِّ غرناطة، ويعودُ بذاكرتِهِ للمنشوراتِ السرية الأولى، وبعد، تتلعثمُ الحِنطةُ التي تعتمِرُ وجهَهُ وهو يُلملمُ الجثامينَ، ويُعبِّئُها في قلبِ الأرضِ التي تتسعُ لهم ولمِلحِ بقائِهم.

الأشلاءُ تتطايرُ بفعلِ القَصفِ وشدَّةِ الرياح، وظِلُّ الخيمةِ يتهاوى، حمل كمال عدوان فأسًا وحفر قبرًا عميقًا للجميع، كبارًا وصغارًا ومواليدَ جدد، لقد جاء من الماضي ليحرُسَ الحاضرَ ويُضمِّدَ أنفاسَهُ الموؤودة.

جاء الفدائيُّ من زمنِ ياسر عرفات وخليل الوزير، ليغسِلَ الدَّمَ الكثيفَ عن غزةَ التي تغرَقُ في أنينِها المستعر، وشهيقِها المتعالي، الذي لا يقوى على استنشاقِ الغبارِ الذي استوطن حناجرَ المبتورين، وتكسَّرَ الغدُ على فوَّهةِ مِدفعيَّةِ الجنودِ العابثين، وهم يُسارِعونَ لمَحوِ اسمِها الذي خَطَّهُ الكنعانيون ويعني "القوَّة" باللغاتِ الساميَّةِ القديمة.

كمال عدوان يشتَمُّ رائحةَ الحريق، يتَّسِعُ صوتُ القنابلِ في وعيه، وينفُضُ جسدَهُ من رأسِهِ حتى أخمصِ قدميه، يرافقُهُ الصّيّادُ نحو المِقصلةِ الجديدة، كان هنا مستشفى كمال عدوان، وقد بات مُضَرَّجًا بالقيودِ والأصفاد، جاء صوتٌ من الخارج: الصاروخُ قادم، ليحتمِي الجميع، صعد كمال عدوان الفدائيُّ واقفًا ليرى ما يحدث، يُساقُ الأطباءُ من قبلِ الجنودِ بنصفِ ملابسِهم، ويُجبَرُ الكهلُ على الانحناء، رفع رأسَهُ بيدينِ من عزيمة، ومضى يُرتِّبُ مواعيدَ اللقاءِ بالقدسِ ويافا والناصرة، في بلادِ المذبحةِ والهزيمة، وهو يردِّد: الفلسطينيُّ لا يُلدَغُ من نكبةٍ مرتين.

دلالات

شارك برأيك

كمال عدوان ينهض من مقبرة الشهداء... ويردد: الفلسطيني لا يُلدغ من نكبةٍ مرتين

المزيد في أقلام وأراء

عام التحديات

حديث القدس

ستون عاماً من الثورة.. النصر آت ؟

د. فوزي علي السمهوري

توثيق التعذيب في فلسطين.. بين الأمل بالإنصاف والتحديات العملية

سماح جبر

معركة غير متكافئة

حمادة فراعنة

الحرديم ولماذا يرفضون قانون التجنيد؟ حرب أهلية مقبلة

إسماعيل المسلماني

تمر الأعوام وتبقى الآلام

حديث القدس

انكشاف المستعمرة وعريها

حمادة فراعنة

2024 عام الكارثة والبطولة.. 2025 عام الحسم

هاني المصري

نحن في حالة ضياع وتيه... والبداية من مخيم جنين

راسم عبيدات

حسام أبو صفية.. الطبيب يتحدى الإبادة

جمال زقوت

صناعة القائد في وسائل الإعلام.. بين التلميع والتضليل

د. أسامة ارميلات

تصعيد مرعب للجرائم الإسرائيلية الفظيعة

حديث القدس

لسان الحال والأحوال.. علقم يا وطن

إياد أبو روك

صباحُ الخَيْر يا غزَّة

بهاء رحال

عيد أنوار سعيد من جباليا!

د. أحمد رفيق عوض

الاستفراد الإسرائيلي

حمادة فراعنة

توثيق التعذيب في فلسطين: بين الأمل بالإنصاف والتحديات العملية

د. سماح جبر

إسرائيل تحكم على قطاع غزة بالإعدام

حديث القدس

عطايا الفارس الشهم.. من إرث زايد الخير إلى عياله

د. أحمد يوسف

سنة صعبة

بهاء رحال

أسعار العملات

الأحد 29 ديسمبر 2024 12:53 مساءً

دولار / شيكل

بيع 3.68

شراء 3.66

دينار / شيكل

بيع 5.2

شراء 5.18

يورو / شيكل

بيع 3.84

شراء 3.82

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%58

%42

(مجموع المصوتين 330)