التَّلَاعُبُ بِالواقِع : بَيْنَ الوَهم السِّيَاسِيِّ وإعَادَة تَشكِيلِ الوَعي" تصريحات ترامب أُنْمُوذَجًا "
الجمعة 07 فبراير 2025 2:58 مساءً - بتوقيت القدس
في عالم السياسة والإعلام، لا تُطرح كل الأفكار والمشاريع من أجل تحقيقها فعليًا، بل يُستثمر بعضها كأدوات لتوجيه الرأي العام وإعادة تشكيل إدراكه للواقع. ما يبدو أحيانًا ضربًا من المستحيل أو محض خيال ليس مجرد ارتجال أو سوء تقدير، بل هو جزء من استراتيجيات مدروسة تقوم على مبدأ "نقل المستحيل إلى دائرة النقاش"، مما يخلق حالة من الإرباك والتكيف التدريجي مع أفكار لم تكن في الحسبان.
هذه التقنية تُعرف في الأوساط السياسية والإعلامية بـ "نافذة أوفرتون"، وهي إطار نظري يشرح كيف يمكن تحويل أفكار غير مقبولة اجتماعيًا أو سياسيًا إلى خيارات مشروعة بل وحتى مفضلة. الفكرة الأساسية هنا هي أنه بمجرد طرح فكرة ما، حتى لو كانت مستحيلة التنفيذ، فإنها تدخل ضمن نطاق التفكير الجماعي، وحينها تبدأ عملية تدريجية من التطبيع والتكييف، حيث يتقبلها الناس كإمكانية قائمة، ثم كأمر واقع.
حين أطلق دونالد ترامب تصريحًا حول ضرورة نقل سكان غزة إلى مصر والأردن، لم يكن ذلك مجرد كلاما عابرا أو زلة لسان، بل كان جزءًا من استراتيجية سياسية وإعلامية مدروسة تقوم على خلق واقع وهمي وإقحامه في دائرة النقاش، رغم استحالة تنفيذه عمليًا وسياسيًا. في عالم السياسة، لا تُطرح جميع الأفكار بقصد تطبيقها بل يُستخدم بعضها لإعادة تشكيل الوعي العام، ودفع الخصوم إلى مواقع دفاعية واستكشاف مدى تقبل الجمهور لأفكار غير مطروحة سابقًا.
المقصود هنا ليس تحقيق التهجير، بل جعله يبدو كأنه خيار قابل للبحث. قبل تصريح ترامب، لم يكن هناك أي طرح رسمي أو نقاش جاد حول تهجير سكان غزة إلى مصر أو الأردن، لكن بمجرد أن يخرج هذا الطرح على لسان رئيس أمريكي فإنه يُزرع في الوعي السياسي والإعلامي، ويبدأ مسار جديد من الجدل، ما يساهم في تطبيع الفكرة وجعلها قابلة للنقاش حتى لو كانت مرفوضة تمامًا في البداية.
كيف تعمل هذه الاستراتيجية؟
يعتمد هذا الأسلوب على أربع آليات رئيسية:
1. نقل المستحيل إلى دائرة النقاش:
تحويل المستحيل إلى موضوع للنقاش هو أحد أكثر الأساليب دهاءً في هندسة الوعي وإعادة تشكيل الإدراك الجماعي. فالأفكار لا تفرض بالقوة دائمًا، بل يكفي أن يُدفع الناس إلى الحديث عنها، حتى لو كان ذلك بدافع الرفض، لأن مجرد التطرق إليها يعني أنها دخلت حيز التفكير، ولم تعد غريبة تمامًا على العقل الجمعي. الفكرة التي كانت تُعتبر غير واردة على الإطلاق تصبح فجأة مطروحة على الطاولة، ليس بالضرورة كخيار مقبول، ولكن كاحتمال يحتاج إلى الرد عليه، وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
في عالم السياسة والإعلام، ما يُناقَش يُصبح ممكنًا، حتى لو كان النقاش في ظاهره رفضًا للفكرة. فحين يضطر السياسيون والمحللون إلى تفنيد طرح معين، فإنهم دون أن يشعروا يساهمون في منحه نوعًا من الشرعية الضمنية، لأن أي فكرة تُناقَش تُعامل تلقائيًا على أنها تستحق التفكير فيها، حتى لو كان ذلك بدافع دحضها. ومن هنا، فإن أقسى أشكال التلاعب ليست في طرح الأفكار، بل في إجبار الآخرين على التعاطي معها، لأنهم بمجرد الدخول في هذا الفخ يفقدون المبادرة، ويجدون أنفسهم يدورون في فلك الخصم، بدلًا من فرض أجندتهم الخاصة.
خذ مثلًا فكرة تهجير الفلسطينيين. قبل سنوات، كان مجرد طرحها يُعد ضربًا من الجنون، لا يمكن لأي سياسي أن يجرؤ على التصريح به علنًا، لكنه اليوم رغم أنه ما زال يُقابل بالرفض، أصبح مطروحًا في النقاشات الإعلامية والبيانات الرسمية، مما يعني أنه بدأ يشق طريقه إلى العقل السياسي كأحد السيناريوهات الممكنة، وبمجرد أن يصبح أي طرح جزءًا من النقاش، يبدأ تدريجيًا في التحول إلى خيار يتم تداوله بين السطور، ثم إلى احتمال يتحدث عنه البعض كأمر واقع، قبل أن يُعاد تقديمه لاحقًا على أنه "الخيار الأقل سوءًا" في ظل ظروف معينة.
إن أخطر ما في هذه الاستراتيجية هو أن الطرف المستهدف يجد نفسه في موقف دفاعي منذ اللحظة الأولى. فبدلًا من أن يكون النقاش حول الحقوق الفلسطينية، يصبح النقاش حول احتمالات التهجير، وكأن مجرد التفكير في ذلك أمر مشروع. وبدلًا من أن يكون الجدل حول إنهاء الاحتلال، يتحول إلى جدل حول ما إذا كان التهجير ممكنًا أم لا. وهكذا، يتم تحويل المعركة من ساحة الفعل إلى ساحة رد الفعل، ومن فرض الوقائع إلى محاولة تفنيد وقائع لم تحدث بعد، لكنها باتت أقرب إلى التحقيق مما كانت عليه سابقًا.
هذه الطريقة في إدارة النقاش لا تهدف إلى الإقناع المباشر، بل إلى خلق واقع جديد يكون فيه المستحيل سابقًا مجرد احتمال يحتاج إلى دراسة. ومن هنا، فإن أخطر ما يمكن أن يقع فيه الطرف المستهدف هو الانجرار إلى لعبة الردود والتفنيد، دون أن يدرك أن مجرد دخوله في هذا السجال يعني أنه بدأ يخسر المعركة الأهم: معركة الوعي والسيطرة على السردية.
2. قياس ردود الأفعال وتحريك الخطوط الحمراء:
طرح الأفكار المستفزة ليس دائمًا بهدف تنفيذها الفوري، بل قد يكون مجرد اختبار لمدى صلابة الرفض لها، ولتحديد مدى إمكانية تحريك الخطوط الحمراء التي بدت يومًا غير قابلة للمساس. في عالم السياسة والإعلام، لا تُقاس حدود المقبول والمرفوض بالقوانين أو المبادئ، بل بمدى شراسة ردود الأفعال. كل تصريح صادم هو بمثابة "بالون اختبار"، يُطلق إلى الفضاء العام، ليس ليُصدَّق مباشرة، بل ليُراقب تأثيره، ويرصد حجم الصدمة التي يُحدثها. فإذا جاءت الردود غاضبة، موحدة، وقاطعة، فهذا يعني أن الفكرة ما زالت خارج نطاق القبول، ولا يمكن التقدم بها خطوة إضافية في الوقت الحالي. أما إذا جاء الرفض خافتًا، مترددًا، أو مشروطًا، فهذا مؤشر على أن التربة باتت أكثر استعدادًا، وأنه يمكن إعادة طرح الفكرة لاحقًا، بصياغة مختلفة، وبإطار يبدو أكثر منطقية وقبولًا.
هذه التقنية هي إحدى أدوات "التطبيع التدريجي"، حيث لا يتم فرض التغيير دفعة واحدة، بل يُدفع الناس إليه على مراحل، عبر آلية ذكية تحاكي عملية تقبل الصدمة النفسية. الفكرة المتطرفة التي تُقابل اليوم برفض قاطع قد تعود غدًا على شكل مقترح قابل للنقاش، ثم بعد سنوات تتحول إلى رأي مشروع يتبناه بعض الأطراف، قبل أن تصبح يومًا ما خيارًا مطروحًا على الطاولة دون أن يُثير استنكارًا واسعًا. كل ذلك يحدث لأن الخطوط الحمراء لا تُكسر مرة واحدة، بل تُدفع ببطء نحو الخلف، حتى يجد الناس أنفسهم قد تراجعوا دون أن يدركوا كيف حدث ذلك.
المثال الأبرز على ذلك هو التصريحات حول تهجير الفلسطينيين، فهي ليست مجرد كلام، بل جس نبض سياسي، هدفه معرفة ما إذا كان هذا الطرح ما زال يُعتبر جريمة لا تقبل النقاش، أم أن الظروف القاسية التي فُرضت على غزة قد جعلت البعض يراه كأحد "الخيارات السيئة" التي قد تُفرض في المستقبل. هنا، لا يهم أن يكون الرد الفوري هو الرفض، بل المهم هو كيف تم التعبير عن هذا الرفض، وهل حمل في طياته تهديدًا حقيقيًا للطرف الذي أطلق الفكرة، أم أنه مجرد استنكار لفظي يمكن تجاوزه؟
هذه الاستراتيجية تجعل كل فكرة، مهما كانت مستحيلة اليوم، قابلة للتحقيق غدًا، إذا لم يتم التصدي لها بقوة من اللحظة الأولى. فحين يُسمح لأي فكرة شاذة بأن تدخل حيز النقاش، حتى لو كان ذلك بهدف رفضها، فإنها قد بدأت بالفعل في اختراق جدار الرفض المطلق، وأصبحت تمتلك موطئ قدم داخل العقل الجمعي. ولذلك، فإن أخطر ما يمكن أن يقع فيه الضحايا هو التعامل مع هذه الطروحات كأوهام لا تستحق الرد، لأن الصمت لا يُفسَّر في عالم السياسة على أنه إهمال، بل يُقرأ على أنه قبول متردد أو عجز عن المواجهة، مما يمنح أصحاب الطرح جرأةً على إعادة طرحه مستقبلاً بقوة أكبر. فالخطوط الحمراء ليست ثابتة، بل هي امتداد لإرادة من يرسمها ويحميها، وإذا لم تُحمَ بردود فعل حازمة، فإنها ستتراجع شيئًا فشيئًا حتى تتلاشى، ويصبح ما كان مرفوضًا يومًا ما أمرًا واقعًا.
3. خلق ضغط نفسي وسياسي:
حين يُطرح سيناريو مثل تهجير سكان غزة، فإنه لا يُطرح باعتباره حلًّا واقعيًا بقدر ما هو أداة ضغط نفسي وسياسي، تدفع الأطراف المتضررة إلى حالة استنزاف دائم، بدلًا من تركيز جهودها على فرض رؤيتها وأجندتها الخاصة. فور صدور التصريح، يجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين للرد، ليس لأن الطرح يستحق النقاش، ولكن لأن تجاهله قد يُفسَّر على أنه قبول ضمني. فيتحول الموقف من المبادرة إلى رد الفعل، ومن الهجوم إلى الدفاع، وتضيع الطاقات في تفنيد أمر لا يستحق التفنيد أصلًا، بينما تتواصل الجرائم على الأرض دون رادع.
لكن الضغط لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل يمتد إلى دول الجوار، مثل مصر والأردن، التي تُجبر على إعلان مواقف رسمية حتى لا يُتهم صمتها بالتواطؤ. ومع أن هذه الدول تعي جيدًا استحالة تنفيذ مثل هذا المخطط، إلا أن اضطرارها للرد ولو بحذر يُشكل جزءًا من استراتيجية إنهاكها سياسيًا ودبلوماسيًا. فبدلًا من أن تقود هي النقاش حول إنهاء العدوان، تجد نفسها مجبرة على إصدار بيانات رفض وإدانة، وهي بيانات ضرورية لكنها لا تقدم شيئًا جوهريًا في ميزان القوة.
وهكذا، يُفرض على الجميع الانشغال بهذا الطرح، وكأنه الخطر الحقيقي، بينما يستمر العدوان في تحقيق أهدافه الفعلية. بل إن مجرد وجود هذا السيناريو في ساحة النقاش يُسهم في التخفيف من وقع الجرائم اليومية، لأن العقول تبدأ في مقارنة القتل المستمر بتهديد التهجير، فيبدو القصف أقل فظاعة مما هو عليه، باعتباره "البديل الأقل سوءًا". وبهذا، يتحول الرأي العام تدريجيًا من المطالبة بوقف العدوان إلى مجرد رفض السيناريو الأسوأ، وكأن هناك مساحة للمفاضلة بين الجريمة والجريمة الأكبر.
إن جوهر هذه الاستراتيجية يكمن في نقل ساحة المعركة من الواقع إلى الخطاب، ومن الأرض إلى التصريحات، حيث تصبح معركة الفلسطينيين ليست فقط ضد الاحتلال، بل ضد حملات متواصلة من الضغوط النفسية والسياسية التي تستنزف طاقاتهم وتُلهيهم عن فرض أجندتهم. فبدلًا من التركيز على جرائم الحرب والمطالبة بالمحاسبة الدولية، يجدون أنفسهم في دوامة من ردود الأفعال والتوضيحات والاستنكارات، وهو بالضبط ما يريده الطرف الذي أطلق هذه الفكرة من البداية: إضاعة الوقت، وتشتيت الجهود، وإبقاء الضحية في موقف المدافع، بينما يستمر الجلاد في فرض الوقائع على الأرض دون مقاومة فعلية.
4. التطبيع مع الفكرة على المدى الطويل:
حتى لو قوبل التصريح بالرفض التام اليوم، فإن تكراره مع مرور الوقت قد يجعله يبدو أقل صدمة وأقل استحالة. وهذه إحدى أبرز تقنيات "نافذة أوفرتون"، التي تشرح كيف يمكن لمفهوم غير مقبول أن يصبح تدريجيًا ضمن الخيارات المطروحة، ثم يتحول إلى رأي سائد؛ فحين يُطرح تصور ما لأول مرة ويقابل برفض قاطع، فإنه يبدو صادمًا، مستفزًا، مستحيلًا. لكن حين يُعاد تكراره مرة بعد مرة، بصياغات مختلفة، وبألسنة متعددة، وفي سياقات متباينة، يبدأ تدريجيًا في فقدان عنصر الصدمة، ويتحول من كونه فكرة شاذة إلى مقترح متداول، ثم إلى احتمال قائم، قبل أن يصبح واقعًا مطروحًا للنقاش. هذه ليست مصادفة، بل هي آلية مدروسة تستند إلى واحدة من أخطر الأدوات في هندسة الوعي الجماهيري: "نافذة أوفرتون"، التي تشرح كيف يمكن تمرير أكثر الأفكار تطرفًا عبر عملية تدريجية من التطبيع الذهني والتكييف النفسي.
في مرحلتها الأولى، تكون الفكرة خارج نطاق القبول تمامًا، ينكرها الجميع، ويستهجنها الرأي العام، وتعتبر ضربًا من العبث أو الجنون. لكن مع استمرار تكرارها، ليس بهدف إقناع الناس بها فورًا، بل فقط لجعلها جزءًا من الخطاب العام، تبدأ في فقدان صبغتها المستحيلة. وما إن يُكسر حاجز الاستحالة، حتى تنتقل إلى مرحلة "الممكن غير المرغوب"، حيث يظل الرفض قائمًا، لكن لم يعد بالمطلق، بل أصبح مشروطًا أو قابلًا للنقاش. هنا، تبدأ مرحلة التكيف النفسي، حيث يتعود العقل الجماعي على سماع الطرح دون أن يستفزه بالقدر نفسه، وتبدأ المساحات الرمادية بالظهور، حيث يظهر من يقول: "لم لا نناقش الفكرة من باب التحليل؟"، ثم من يقول: "أليس من الأفضل التفكير في جميع الخيارات؟"، وهكذا يصبح ما كان مرفوضًا بلا نقاش موضوعًا للجدل.
بمجرد أن يصل الطرح إلى هذه المرحلة، يكون قد قطع أكثر من نصف الطريق نحو القبول، لأن الخطوة التالية هي تقديمه كـ "خيار ممكن لكنه غير مفضل"، وهنا يبدأ التبرير العقلي: "نحن لا نريد هذا الحل، لكنه قد يكون الخيار الوحيد في ظل الظروف الحالية". وعند هذه النقطة، يكون الرأي العام قد استُهلك في مناقشات طويلة حول التفاصيل والآليات، فيتحول الرفض إلى قبول ضمني، ليس عن قناعة، بل عن إنهاك واستسلام لفكرة أن المقاومة الفكرية لم تعد مجدية.
وهكذا، ما يبدأ كتصريح مرفوض جملة وتفصيلًا، ينتهي به المطاف كأمر واقع، ليس لأن الناس أرادوه، بل لأنهم اعتادوا سماعه حتى لم يعد يُثير فيهم نفس درجة الاشمئزاز الأولى. وكما يتحول الصراخ المتكرر إلى ضوضاء مألوفة، يتحول الطرح المرفوض إلى خيار مطروح، ثم إلى سياسة منفذة، بينما يظن الجميع أنهم لم يغيروا مواقفهم، رغم أن الواقع قد تغير أمامهم دون أن يشعروا. هذا هو جوهر التطبيع مع الفكرة: لا إقناع مباشر، بل إنهاك ذهني، وتآكل تدريجي للحواجز النفسية، حتى تصبح الفكرة التي كانت تستدعي الغضب مجرد خبر آخر في نشرات الأخبار.
لماذا تُستخدم هذه الاستراتيجية؟
في السياسة والإعلام، لا تهدف مثل هذه التصريحات دائمًا إلى تحقيق ما يُقال بشكل مباشر، بل تسعى إلى تحقيق أهداف أخرى أكثر دهاءً، مثل:
ـ إعادة توجيه النقاش بعيدًا عن القضايا الأساسية، فبدلًا من التركيز على العدوان على غزة، ينشغل الإعلام بنقاش مستقبلي وهمي حول أين سيذهب سكان القطاع.
- تهيئة الرأي العام لقبول سيناريوهات بديلة، مثل الضغط على الفلسطينيين لمغادرة أراضيهم بطرق غير مباشرة.
- خلق بلبلة وانقسامات داخل الأطراف المعنية، حيث ينشغل الفلسطينيون والعرب بالرد على الفكرة بدلًا من التركيز على القضايا الأكثر إلحاحًا.
علاوة على ذلك:
حين يطلق دونالد ترامب وغيره من الموالين له تصريحات تدعو إلى نقل سكان غزة إلى مصر والأردن، فليس الهدف تقديم حل قابل للتنفيذ، بل خلق جدل مصطنع يحرف الأنظار عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الفلسطينيون. هذه ليست مجرد كلمات عابرة، بل استراتيجية مدروسة لإغراق النقاش في قضايا جانبية، تدفع الفلسطينيين وحلفاءهم إلى موقع الدفاع، بينما يتواصل العدوان بلا رادع. فبدلًا من أن ينشغل العالم بوقف القتل والتدمير، يجد نفسه يناقش سيناريوهات مستحيلة للتهجير، وكأن المشكلة ليست في المجازر، بل في مستقبل ضحاياها.
تحويل الانتباه عن الجريمة الأصلية هو أقدم حيل الطغاة، حيث يُلقى في ساحة النقاش طرح مستفز يثير الغضب ويستدرج الجميع إلى الرد عليه، بينما يستمر الفاعل الأصلي في ارتكاب جرائمه بلا مساءلة، وما إن تُطرح فكرة التهجير حتى ينشغل الفلسطينيون بنفيها، وتبدأ الدول العربية في إصدار البيانات لرفضها، وينقسم الإعلام بين مؤيد ومستنكر، بينما يواصل الاحتلال قصفه وجرائمه دون ضغط حقيقي لإيقافها، هكذا يتحول النقاش من إدانة القتل الجماعي إلى جدل حول إمكانية نقل شعب بأكمله، وكأن التهجير أصبح خيارًا مشروعًا قابلًا للتفاوض.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة، بل هي امتداد لنظرية "نافذة أوفرتون"(التي ذكرناها سابقا)، حيث تُطرح أفكار متطرفة أولًا كتصريحات صادمة، ثم تتحول إلى مواضيع للنقاش، قبل أن تصبح مع مرور الوقت ضمن دائرة الخيارات المقبولة. ما كان يومًا مستحيلًا يصبح فجأة أحد السيناريوهات المطروحة، وما كان مرفوضًا أخلاقيًا يتحول إلى أمر واقع لا مفر منه، وهكذا لا يتم تحقيق الأهداف بالقوة وحدها، بل بإعادة تشكيل وعي الجماهير، ودفعهم إلى قبول ما لم يكن مطروحًا للنقاش أصلًا.
لكن الأخطر من ذلك أن مثل هذه التصريحات تمنح الاحتلال غطاءً سياسيًا لجرائمه، إذ تجعل الإبادة الجماعية تبدو وكأنها مجرد وسيلة تمهيدية لحل آخر، فيصبح التهجير امتدادًا منطقيًا لما يحدث بدلًا من كونه جريمة منفصلة، وبهذه الطريقة، يُعاد تأطير الإبادة الجماعية ليس كفعل وحشي يستوجب العقاب، بل كإجراء ضروري يفرض نفسه بحكم "الواقع الجديد"، وكلما اشتدت الجرائم، كلما زادت الدعوات لإيجاد "مخرج"، وحينها يصبح الحديث عن التهجير وكأنه حل "إنساني" بدلًا من كونه جريمة مضاعفة.
كيف يمكن مواجهة هذا التلاعب؟
مواجهة هذا النوع من التلاعب لا تكون بالوقوع في فخ النقاش حول تفاصيل السيناريو المطروح، بل تبدأ بكشف الأهداف الحقيقية الكامنة خلفه. فمن الخطأ الاستغراق في تفنيد فكرة وهمية لمجرد أنها طُرحت في الفضاء السياسي أو الإعلامي، لأن ذلك يمنحها شرعية غير مستحقة، بل يجب قلب الطاولة على من يطرحها، وفضح دوافعه الحقيقية، وإعادة توجيه النقاش نحو القضايا الجوهرية التي يسعى إلى طمسها.
حين يُطرح سيناريو مستفز مثل تهجير الفلسطينيين، فإن الرد الفوري يجب ألا يكون بالجدل حول مدى إمكانية تطبيقه أو استحالته، بل يجب أن يكون فضحًا واضحًا للهدف من طرحه: التغطية على الجرائم المرتكبة، وتخفيف الضغط عن الاحتلال، وتحويل الضحايا إلى موقع الدفاع بدلًا من الهجوم. هذه ليست مجرد فكرة عابرة، بل هي تكتيك محسوب لإعادة رسم أولويات النقاش، بحيث ينشغل العالم بما إذا كان التهجير ممكنًا أو لا، بدلًا من التركيز على الاحتلال ذاته باعتباره الجريمة الأصلية التي يجب إنهاؤها، وهنا تأتي أهمية السيطرة على السردية الإعلامية، عبر إعادة توجيه الاهتمام إلى القضايا الجوهرية التي يحاول الخصم تغييبها. فبدلًا من الانجرار إلى نقاش تفاصيل التهجير، يجب أن يكون الرد هو التشديد على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للمساومة، وعلى أن الحل الوحيد هو إنهاء الاحتلال وضمان السيادة الكاملة للشعب الفلسطيني. يجب ألا يكون الخطاب دفاعيًا، بل هجوميًا، بحيث يُفضح التلاعب، وتُكشف نوايا من يقف خلفه، وتُسلط الأضواء على القضايا التي يريدون التهرب منها.
إن من أقوى الأسلحة في هذه المواجهة هو تفكيك أسلوب التلاعب نفسه، بحيث لا يعود الجمهور يتعامل مع هذه الطروحات كأفكار معزولة، بل يدرك أنها جزء من استراتيجية ممنهجة لإعادة تشكيل الوعي. فحين يعي الناس أن هذه ليست مجرد تصريحات عشوائية، بل أدوات ضغط نفسي وسياسي، فإن تأثيرها يضعف، وتفقد قدرتها على فرض نفسها كواقع محتمل. لذلك، فإن من أهم الخطوات هو توعية الرأي العام بهذه التقنيات الإعلامية والسياسية، حتى يصبح الناس أكثر إدراكًا لما يُحاك ضدهم، وأكثر قدرة على مقاومة محاولات التأثير على قناعاتهم، فالمعركة هنا ليست فقط حول فكرة معينة، بل حول من يتحكم بالسردية العامة، ومن يحدد ما هو ممكن وما هو مستحيل، وما يستحق النقاش وما يجب استبعاده فورًا. فكلما كانت الاستجابة واعية ومدروسة، وكلما تم رفض الانجرار إلى زوايا النقاش الخاطئة، كلما بقيت المعركة في مسارها الصحيح: الدفاع عن الحقوق، لا الدفاع ضد الأوهام.
في عالم السياسة، لا يتم التحكم في الواقع فقط من خلال الأفعال، بل من خلال التحكم في إطار النقاش العام؛ حين يتم طرح فكرة مثل تهجير سكان غزة، فإن المعركة لا تكون حول تنفيذها من عدمه، بل حول ما إذا كان يجب مناقشتها أصلًا، وهنا تكمن خطورة هذه الاستراتيجيات، التي تهدف إلى تحويل ما هو غير مقبول اليوم إلى خيار مطروح غدًا، ثم إلى أمر واقع بعد سنوات، والتصدي لهذا التلاعب لا يكون بالانجرار إلى تفاصيل السيناريوهات المصطنعة، بل بكشف الغاية الحقيقية وراءها، ورفض الانحراف عن جوهر القضية. القضية ليست إلى أين سيذهب سكان غزة، بل لماذا يتم استهدافهم بالإبادة الجماعية أصلًا، فالمعركة ليست حول بدائل البقاء، بل حول وقف المجازر ومنع استمرارها، والمطلوب ليس الدخول في جدل عقيم حول استحالة التهجير، بل إبقاء التركيز منصبًا على مسؤولية الاحتلال عن الجرائم التي تدفع لهذا الطرح أصلًا، فالتاريخ يعلمنا أن أكبر الهزائم تبدأ حين نسمح للجلاد بأن يحدد لنا إطار المعركة، وحين ننشغل بمناقشة خياراته بدلًا من مواجهته على جرائمه.
إقرأ المزيد لـ د.سامح يوسف ...
الأكثر تعليقاً
نتنياهو: تدمير غزة يهدف إلى التهجير

الشيخ: أولوية الرئيس هي وقف الحرب الإجرامية على شعبنا

نقاش سادي في الكنيست: مطالب بتجويع أطفال غزة ومنع العلاج عنهم
الرئيس عباس يطلع السفراء العرب بموسكو على تطورات عدوان إسرائيل بغزة والضفة

في جدلية التناقض الرئيسي والثانوي

فريدمان لترمب: نتنياهو ليس حليفا لنا بل يهدد مصالحنا

هرتسوغ: لا شيء يُسعدني أكثر من مصافحة ابن سلمان

الأكثر قراءة
الروائي أحمد رفيق عوض يشارك في ندوة حول الرواية الفلسطينية بمعرض الدوحة للكتاب

الاحتلال يعتقل شابا من الخليل

توقعات ترمب الطموحة من زيارة الخليج قد تعود بنتائج عكسية بسبب دعمه اللامحدود لإسرائيل

مستوطنون يهاجمون شمال غرب رام الله
شي: الصين وروسيا ستتحملان مسؤولية خاصة كونهما دولتين كبيرتين

في جدلية التناقض الرئيسي والثانوي

د. صبري صيدم لـ"القدس": "خير جليس".. ألف كتاب تم تلخيصها وإتاحتها للجميع في أحلك الظروف


أسعار العملات
الأربعاء 07 مايو 2025 11:16 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.62
شراء 3.61
دينار / شيكل
بيع 5.11
شراء 5.1
يورو / شيكل
بيع 4.11
شراء 4.1
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 1220)
شارك برأيك
التَّلَاعُبُ بِالواقِع : بَيْنَ الوَهم السِّيَاسِيِّ وإعَادَة تَشكِيلِ الوَعي" تصريحات ترامب أُنْمُوذَجًا "