المعضلة العربية: يظل العالم العربي (ما عدا فلسطين)، مع بعض استثناءات، متخلفًا في العصر الحديث بينما تطور الغرب الذكاء الاصطناعي الذي يكتشف السرطان متقدما بالسنوات
الجمعة 24 يناير 2025 5:54 صباحًا - بتوقيت القدس
إسماعيل. ي. سيد
استاذ دراسات الحديث والفقه، باحث و كاتب في شؤون العالم العربي - لندن، بريطانيا
لو أن العالم العربي ابتكر مثل هذه التكنولوجيا الرائدة في العصر الحديث.... نعم، قاد العالم العربي والهند الاكتشافات الرائدة في العصور القديمة والوسطى، ولكن إلى متى سيستمر العرب في العيش في ظل العصر الذهبي للماضي؟ على الأقل البلاد، مثل الهند وأندونيسيا، تتقدم بين أيدينا. والافتقار إلى وسائل المالية ليست قضية/مشكلة أيضًا، فإنما تعد دول الخليج العربية من بين أغنى الدول في العالم.
طوّر باحثو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "ميراي" (MIRAI)، وهو نموذج ذكاء اصطناعي يكتشف سرطان الثدي قبل التشخيص السريري (clinical diagnosis) بخمس سنوات. باستخدام التعلم العميق على صور التصوير الشعاعي للثدي، يتنبأ بالتغيرات السرطانية السابقة بدقة عالية، مع مراعاة العمر والتاريخ العائلي. يمكن لميراي تحديد الخلايا السرطانية الغازية في الأنسجة التي تبدو طبيعية، مما يتيح العلاج المبكر والأكثر فعالية وتحسين معدلات البقاء على قيد الحياة، وخاصة بالنسبة للنساء المعرضات للخطر. للمزيد من القراءة في حيال هذا، قم بالزيارة هنا: https://jclinic.mit.edu/mirai .
بالطبع، هذا لا يعني أن المواهب غير موجودة في العالم العربي، بل تتواجد مواهب كثيرة وجواهر مخفية في بين الشعب العربي، ونعم، إن القبضة الاستعمارية الغربية على الجنوب العالمي (global south) والعالم العربي بالتحديد من خلال الاستغلال—مواردًا وفكرًا وسياسةً—لعبت دورا كبيرا أيضًا في إبقاء العرب تخلفًا، لكن الدول الأخرى المستعمرة سابقًا من الجنوب العالمي تخرج تدريجيًا من قيود الاستعمار الأبيض والإمبريالية الغربية. المواهب موجودة ومنتشرة في العالم العربي ولكن العقلية السلبية والمزاج اللامبالية المرجئية وعقلية التبعية (و هذه الازمة ليست بشأن العرب كلهم ولكن الكثير منهم) والاحترام لولاة الأمر إلى حد شبه التعبد والخضوع للديكتاتورية/الملوكية والقبلية والثقافات والمجاملات المفرطة للنخب الحاكمة كلها أدت إلى أزمة سُبات العقلية والمواهب في العالم العربي.
ومادام لايتمتع كل فرد من المواطنين والسكان، بالحق في حرية التعبير والعدالة الاجتماعية وسيادة حكم القانون وبالحق في انتقاد/نقد وإدانة الحكام لما يبدو منهم من الأخطاء وغير الأخلاقية، من دون خوف أو محاباة، ومادام لايتمتع كل فرد من المواطنين والسكان، بالحق في تحدي الوضع الراهن ومادام لاتكون هناك لتطوير الأفكار ولتحقيق الاحلام بيئة ترحيبية مفتوحة ومواتية للجميع - من العرب وغير العرب، ومن السود والبيض - تزامنًا مع الحقوق المتساوية في المواطنة العربية، فإذًا سيظل العالم العربي متخلفًا حتى يلِج الجمل في سمّ الخِياط. نعم، هذه الحريات والبيئة المفتوحة وكذلك الحق في انتقاد الحكومة والزعماء والرقابة عليهم يمكن أن تعايش مع حدود ما يسمى بخطوط حمراء بشأن احترام القيم العربية والإسلامية وقيم مكافحة العنصرية من خلال إقامة الضوابط والتوازنات من خلال الفصل بين السلطات.
نعم، كانت هناك جيوب من الاكتشافات والتطورات والهبات في العالم العربي (على سبيل المثال "مجتمع جميل"، "مؤسسة قطر"، "الوليد للإنسانية"، وما دون ذلك) التي ترعى/تمول البحث والتطوير الحيوي ولكنها ليست معممة - بالطول والعرض - في قلب العالم العربي، بخلاف رعاية مشاريع البحث المتطورة في الغرب، التي يمكن أن تخضع لعقوبات يقودها الاستعمار الغربي والصهيوني في أي لحظة، وغالبًا ما يعني هذا تمويل ورعاية شراءِ منتجات جاهزة غربية أو صينية مع سيطرة ضئيلة على براءات الاختراع (patents) وحقوق الملكية الفكرية (intellectual property rights). وبالتالي، هناك الحاجة إلى بذل المزيد من الجهود، إلى حد يؤدي إلى تعميم الإبداع والابتكار والبحث والتطوير بحيث يتم تحويل و انتقال عاصمة البحث والتطوير من الغرب الاستعماري المؤيد للصهيونية، إلى رعاية المواهب وتطوير قواعد للاكتشافات الرائدة في قلب العالم العربي. إن إزالة الدولرة/التخلي عن دولار أمريكي (de-dollarization) كعملة لصادرات النفط والتجارة الدولية، بطريقة الهيكلية التدريجية من خلال اعتماد وتدويل العملة العربية المحلية بما في ذلك العملات الخليجية، سيكون بداية جيدة فإن إحتياطات الدولار الأمريكي معرضة لإمكان عقوبات غربية صهيونية، في غضون مهلة قصيرة (وتعد روسيا مثالاً جيدًا، على الرغم من كونها قوة هائلة، فقد تم فرض العقوبات الغربية على جميع احتياطياتها من الدولار ومصادرتها في بداية حرب أوكرانيا).
لكن كل هذا ماذكر أعلاه من الطموحات والأهداف لا يمكن أن يحدث إلا عندما يسعى المجتمع والعالم العربي إلى تأسيس و تشكيل بيئة شفافة ومنفتحة بين السلطات الحاكمة والمواطنين، حيث يحق للمواطنين وممثليهم أن يُستشاروا في شؤون الدولة والأمور التي تمسهم وأن تكون هناك مساحات مفتوحة ومرحبة للشعب بحق التفكير بشكل ابتداعي وابتكاري، وأن تكون للشعب حرية التعبير في انتقاد ونقد وحق محاسبة السلطات الحاكمة بدون أي خوف أو محاباة. وإلا فإن العالم العربي سيظل نسخة القرن الحادي والعشرين من مزرعة الحيوانات في رواية أورويل, وسوف يستمر الشعب العربي في التطلع إلى التدفق إلى الغرب. (حسب بعض مكاتب المحاماة المتخصصة في قضايا الهجرة في بريطانيا وأميركا وفرنسا وأستراليا، وإلى حد أقل في تركيا، ان المحامون مغمورون بالاستفسارات من أبناء الطبقة المتوسطة من السعوديين، وإلى حد ما المواطنين الإماراتيين، الراغبين في الهجرة والاقامة، ناهيك عن السوريين والعراقيين والفلسطينيين).
أما بشان حكام العرب والملوك المستبدين المدعومين من قبل الصهاينة الغربيين والمستعمرين البيض، فهذا موضوع ليوم آخر، الا ما سأقوله هو أن الحكام الدكتاتوريين والملوك المستبدين يهدرون الكثير من الموارد القيِّمة في قمع مواطنيهم لتعزيز قاعدة قوتهم القبلية والمحسوبية، وبالتالي ينفقون موارد اقل على تغذية المواهب بطريقة غير فعالة بين شعبهم العربي ودفعها، وبالتالي يتركون دولهم ومواطنيهم العرب مع الموارد والمواهب غير فعالة لمواجهة المستعمرين الصهاينة المتوسعين الأقوياء.
لا يزال هناك وقت ليخرج العرب من سباتهم، لينهضوا ويتحرروا من أغلال تمجيد ملوكهم وتملق حكامهم، ويبدأوا متوكلين على اللّه في إعلاء مبادي العدل والمساواة والعروبة والإسلام والإنسانية، وينظرون إلى العالم بأعين فضولية بطريقة نشطة، ويضعون إبداعهم وتفكيرهم وعملهم الجاد الذي لا يكل والعرق في العمل، بدون خوف من أحد ولا يتوقعوا أي معروف أو خدمة أو إطراء من النخبة. وبطبيعة الحال، فإن هذا لن يحل المشكلة بين عشية وضحاها، بل من شأنه أن يشعل أسطوانات التفكير والإبداع والعمل الجاد وعقلية الاعتماد على الذات، ويؤدي إلى القضاء علي الاستعمار في عقولهم وأفكارهم أولا. (لقد نجح أغلب الفلسطينيين بشكل استثنائي في القضاء على الاستعمار فكرا وعقلا - ليست كلماتي فقط بل كلمات المفكرين العرب، ووضعوا بذلك معياراً للعالم العربي الأوسع والجنوب العالمي).
إذا نلفت إنتباهنا إلى دول من العالم الجنوبي، بلاد باكستان على سبيل المثال، سنعلم أن هزيمة باكستان في الحرب مع الهند في عام 1971 كانت كارثيةً ومهينة (والتي أدت إلى تفكك باكستان غير المقسمة سابقًا - التي تكونت من باكستان الشرقية وباكستان الغربية - وإنشاء بنجلاديش لاحقًا) هي قد أدت إلى تغيير جذري في النظام بأكمله من خلال دستور جديد تم له تعزيزه بسيادة الدستور ( على الأقل لفترة من النمو)، مما يؤدي إلى نمو مطرد لتصبح دولة تمتلك قوة نووية رادعة كاملة، كما قال الرئيس الباكستاني آنذاك بوتو "[لن نضطر أبدًا إلى مواجهة الهزيمة مرة أخرى] نحن [باكستان] سوف نأكل العشب، وحتى نجوع، ولكننا سوف نحصل على قنبلة نووية خاصة بنا... ليس لدينا خيار آخر!".
إذا لم تكن الهزيمة المهينة للعرب في عام 1967 كافية، وإذا لم يكن غزو العراق، الهمجي وغير القانوني - من قِبل إمريكا وبريطانيا المتعصبتان للبيض - كافيًا، فإن الإبادة الجماعية الفلسطينية الكارثية على أيدي القوات الصهيونية الاستعمارية المحتلة - بدعم من الغرب ذي التفوق الأبيض - يجب أن تكون بمثابة جرس إنذار للعرب وحكامهم. لقد بدأت الإبادة الجماعية التي ارتكبها الغرب العنصري الأبيض على يد الصهاينة الاستعماريين بالإبادة الجماعية للعرب الفلسطينيين في فلسطين والشام، لكن لا تتوهم: إذا لم يربط الشعب العرب حزام الأمان ويجمع أفعالهم معًا بحق تحقيق طموحاتهم، فإن العرب الأوسع في المنطقة سيكونون هم التاليين على نطاق أوسع،لا سمح اللّه.
ونعم، التفوق العسكري يأتي بطبيعة الحال مع الصفات الداخلية للعبقرية الإبداعية للاختراع والتنوع والانفتاح على تجنيس الأجانب التي تؤدي إلى قوة عظمى اقتصادية ذات إبداعية مكملة للبراعة العسكرية تحت سيادة الدستور وحكم القانون. فإنّ في عهد النبي صلّى اللّه عليه وسلم، على الرغم من أن هناك اعتراف واسع بسيادة النبوة، كانت الوثيقة (المعروفة أيضًا بـ "الصحيفة"/"صحيفة المدينة") التي عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في إعدادها وعقد الاجتماع عليها، اعتبرت وتمثلت دستورَ المدينة كدستور تعددي شامل لدولة بسيادتها وسيادة القوانين التي تنبثق منه، مراعيًا جميع الجوانب الانسانية والحضارية والمجتمعات مختلفة الأديان، على عكس ولاة الامر اليوم الذين يظلون كأصحاب السيادة فعليا، وجعلوا الدستور كدستور خاضعا لإرادة الملوك والحكام كالسلطة التقديرية، حتى لو كان ذلك يسفر عن إسقاط المادة المتعلقة بمنصب ومعايير رئيس الوزراء من أجل تنصيب الابن رئيسا للوزراء كأنما الدستور يخضع للأهواء التعسفية للملوك والحكام الأقوياء!
إنما ساهم رواد وعباقرة الماضي، مثلًا، ابن سينا والخوارزمي والبيروني والفارابي وابن قتيبة والعديد من الأجانب الآخرين من غير العرب في العصر الذهبي لإثراء الحضارة العربية لما كان العالم العربي مرحبا بذوي مواهب ومزايا من أنحاء العالم واحتضنهم بأذرع مفتوحة وساعدهم على اندماجهم في المجتمع العربي من خلال التعريب التدريجي مع السماح بالزرع القيم النفيسة (من التراث الأجنبي) في الحضارة العربية في إطار الحضارة العربية والإسلامية الأوسع. ولا يمكن أن يحدث الازدهار مثل هذا التنوع وإثراء الحضارة العربية والإسلامية إلا عندما يكون هناك السيادة للدستور ويكون الملوك والحكام والمواطنين والمجتمع تحت الدستور، الدستور الذي تضمن الانفتاح على شفافية وانتقاد ومحاسبة الحكام الأقوياء على أفعالهم وأخطائهم من خلال الاستقلال التام للقضاء، منفصلاً عن الحكومة/الحكام/السلطة التنفيذية، والتحرر من نفوذهم، بعبارة أخرى: فصل السلطات (separation of powers).
وإلا فإن مزاج السبات وعقلية القطيع والتبعية سوف يستمر في إيقاع العالم العربي في حلقة مفرغة (vicious cycle) من الخوف والتبعية في حين أن المواطنين العرب والمسلمين الموهوبين سيقعون في قبضات الكيانات الغربية والصهيونية على حساب العالم العربي. وسيصبح الملوك والحكام العرب أباطرة عراة، مُدلَّلين بتملق مواطنيهم الشبيهين بالببغاء بينما تتسارع العاصفة إليهم.
إن العرب الفلسطينيين، على الرغم من كل الصعوبات ووقوعهم في حلقة مفرغة من الصعوبات المالية والاستعمار واستمرار النكبة والاحتلال اللانهائي والقمع الاستعماري العنيف والإبادة الجماعية الختامية من قبل الصهاينة، ما زالوا يُعتبَرون من بين أكثر الشعوب تعليماً ومهارة في/من العالم العربي. وهذا يعطي بعض الأمل للعالم العربي الأوسع الذي يضم بعض أغنى الدول المتميزة في العالم. والسؤال هو: هل سيستمع الشعب العربي والعالم العربي إلى النداء الأخير للصعود؟
تابعوا صاحب المقال على ايكس (المعروف بالتغريد سابقا): IsmailYSyed@
إقرأ المزيد لـ إسماعيل يمين سيد ...
عميم الإحسان قبل 11 أيام
مقالة رائعة ما شاء الله....العربية فخرنا
الأكثر تعليقاً
من أين جاؤوا بنظرية "الضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر" ؟
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
الاحتلال يفرج عن الدفعة الرابعة من المعتقلين ضمن اتفاق وقف إطلاق النار
الترامبيّة المُتحوّرة!
الرئيس يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية
ما المنتظر من لقاء نتنياهو وترامب؟
لا للتهجير.. نعم للإعمار
الأكثر قراءة
إعلام عبري: نتنياهو يناقش خطط عودة الجيش الإسرائيلي إلى غزة
الشرطة الإسرائيلية تعتقل 432 عاملا فلسطينيا داخل أراضي 1948
ترامب: لا ضمانات لدي أن الهدنة بين إسرائيل وحماس ستصمد
مستعمرون يقتحمون مبنى "الأونروا" في حي الشيخ جراح
ترامب يبحث الثلاثاء مع نتنياهو سيناريوهات التهجير لغزة واحتمال العودة للحرب
مارتن أولينر يدعو إلى دعم خطة ترامب للتهجير.. "سكان غزة لا يستحقون الرحمة"
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
أسعار العملات
الثّلاثاء 28 يناير 2025 12:16 مساءً
دولار / شيكل
بيع 3.61
شراء 3.6
دينار / شيكل
بيع 5.09
شراء 5.08
يورو / شيكل
بيع 3.77
شراء 3.76
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 554)
شارك برأيك
المعضلة العربية: يظل العالم العربي (ما عدا فلسطين)، مع بعض استثناءات، متخلفًا في العصر الحديث بينما تطور الغرب الذكاء الاصطناعي الذي يكتشف السرطان متقدما بالسنوات