Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

المشهد الثّقافي في فلسطين قابَ قوسين أو أدنى

الخميس 05 ديسمبر 2024 12:36 مساءً - بتوقيت القدس

غدير حميدان

تشهد الساحة الثقافية الفلسطينية حالة من التأرجح، وموجة من الاضطرابات والثنائيات المتناقضة التي تستدعي الاهتمام، والوقوف عند المسؤولية على قدر الطاقة والاستطاعة، فنحن نسير في نفقين مظلمَيْن أحدهما يفضي إلى الشمس، والآخر يقودنا إلى الخلف ويفضي إلى ظلمات فوق بعضها البعض، وهنا تطرق مسامعنا أسئلة متشابكة تلخّص سؤالا محوريّا ذاتيّا ألا وهو:
أين أنا؟! فإنْ غابوا فهل حضرت أنا، ولئن ناموا فهل استيقظت أنا؟
إنّه الحديث المتكرر عن المسؤولية والذي يجب أن يتحول إلى إيمان بالمسؤولية الفردية وأثر الفرد الواحد، فدواؤك فيك وما تبصر، وداؤك منك وما تشعر، وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر، هذا الوعي الذي يتمدد مثل نقطة حبر إذا وقعت في كوب ماء بات مطلبًا وطنيّا وليد حالة استثنائيّة تستصرخ الأمل، فبينما نخسر ثلة من أركان الثقافة بمشارب متنوعة في قطاعنا الحبيب، في ظل حرب فاشية لم يسلم منها لا البشر، ولا الشجر ولا الحجر، وهي إبادة ممنهجة يسعى الاحتلال الغاشم إلى المضي قدما فيها استكمالا لمسلسل الطمس والتهويد ومحو الهويّة عن بكرة أبيها، بدءا من نكبة 1948م إلى هذه اللحظة.
من هنا يمكننا القول بأنّ المشهد الثقافي في فلسطين بات خليطا من متناقضات وأضداد ثنائيّة تحمل بذوراً متعددة للتغاير الفئوي من نحو، وبذورا أخرى للتجديد النوعي في الرؤية لدى جيل يصرّ على كسر الجليد الرتيب في معادلة جدية مبشّرة إلى حد كبير من جهة أخرى والتراب واحد.
هذه الصورة الضبابية القاتمة تحتّم علينا أن ننتقل ببصرنا في صورة اكتمالية من الموت إلى الحياة انتصارا لقضيتنا العادلة الممتدة في جسم الوطن الواحد بين الضفة وغزة، وتأكيدا على تعزيز البنى التحتية للموروث الثقافي والإنساني وتعزيزا للرواية الفلسطينية؛ لنشهد مخاضا لمولود ينهض من رحم المعاناة ليفكّ قيد السّجن والسجّان، والمتمثّل في رواية قناع بلون السماء للأسير باسم خندقجي، والفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية في دورتها السابعة عشر، وعلى مقربة منه خارج السور الكبير نصافح فوزا مستحقّا لأحد أركان الثقافة الفلسطينية الأديب القدير محمود شقير ليحصد جائزة فلسطين العالمية للآداب وغيرهم الكثير، وهذا الحضور جاء جرعة أمل في زمن غير مسبوق لينزع الرمق الأخير ويعيد إلى جسم المشهد نبضه المتمسّك بالحبل السّرّي بينه وبين الوطن الأمّ.
والسؤال المطروح على الطريق المتعثر الطويل لواقع لا نجيد قراءته هو:
هل ينتظر المثقف الفلسطيني إعادة بناء نظامه السياسي؛ كي يمارس دوره في الصراع الوجودي؟
ويأتي الجواب مهرولا قبل وضع علامة الاستفهام: بالطبع لا. ويمكن سرد بعض الحقائق التي تحدد مواصفات هذا الواقع المأزوم، فعلى المستوى الوظيفي هناك إقصاء فعلي للكفاءات من حملة الشهادات العليا وتغييب واضح للصوت الحرّ النبيل، وجعل الحركة الثقافية الفعلية تقاد بخيار سياسي يفرضه علينا الواقع المعيش من تدهور سياسي واقتصادي يضربان بلقمة عيش البلاد والعباد، وما نراه من بطالة متكدّسة، وانهيار للمنظومة الأخلاقيّة على أثر ذلك، ما يترتّب عليه إبعاد لذوي الخبرات والرؤى. أمّا على المستوى الإعلامي فقد أصبحت تهمة التعبير عن الرأي نقطة حمراء تلتصق بصاحبها أينما ولّى وجهه، وقد يلاقي ولي أمرها من القدر ما لا يحبّ ولا يرضى.
وعن الواقع الثقافي في المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات للأسف الشديد نستطيع أن نقول هنا ودون تردد هو واقع مهزوم أكاديمياً تفشّت فيه السلوكيات غير المنضبطة، وتفشى الإهمال الملحوظ لدى جيل المتعلمين في المرحلتين الجامعية والمدرسية؛ لضعف الأثر التربوي في نفوس الصغار، ووجود انفتاح غير منضبط لا تراعي فيه الجهات المسؤولة وعلى رأسها المؤسسة التعليمية الأولى والمتمثّلة في الأسرة خطورته على الجيل الناشىء.
لكنّ هذه السوداوية، وإن كانت حارقة مؤذية، مثيرة للغضب والسخط والتأسي، إلاّ أنّها لا تمثّل أساساً للتكوين الثقافي، بل هي مرحلية، باعتبارها مفروضة ضمن قراءة المشهد السياسي؛ فالطاقات المكبوتة الواعية لديها في جعبتها من يمكن من خلاله أنْ نعيد القاطرة إلى السكة، ونعبّد الطريق أمام المسير، وإنْ كان طويلا متعثّرا يستدعي الحذر. ولا بدّ أن نشير أيضاً إلى قضية مهمة، فمع أنّ مفاصل الحياة الثقافية أصبحت رهينة للخيار السياسي المتحكّم النافذ الذي يفرض نفسه على الساحة الفلسطينية والمتمثّل في الكيان المهزوم لا محالة، إلاّ أنّ هذه المنظومة العابرة لم تعد متماسكة، بل إنّ الأكثرية المثقفة في الضفة لا ترى في هذا التشرذم والإقصاء والغربة الموغلة في انسحاقها منطقاً مقبولاً؛ فثمة تململات متضاعفة في ذلك الوسط الثقافي، تبشّر بانفراجة حقيقية مع تنامي فرص الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف تكريما لتضحيات أبنائها. ولعلّ جملة من تلك المبشرات يمكن لمسها في بيانات وزارة الثقافة على صفحتها الرئيسة منذ الحرب الأخيرة، والتي تحمل أبعاداً جديدة من إرادة التحدي، ومن قيم الانتماء والالتزام والمسؤولية الفردية والجمعيّة... وضمن مواجهة متواصلة من جيل إلى جيل، لسلسلة من التحديات المصيرية التي فرضتها مراحل الصراع الطويل مع المخطط الصهيوني الاستعماري الذي كانت ذروته نشوء إسرائيل في عام 1948م، على معظم أراضي وطننا فلسطين، وما تبع من احتلالها الاستيطاني للبقية الباقية من هذه الأراضي في عام 1967م، حيث تعززت المكونات المركزية لثقافتنا الوطنية، باعتبارها ثقافة مقاومة، وثقافة صمود، وثقافة حياة لا تتوقف عند شرائح مثقفة بذاتها، بل تتجاوز هذا التعريف التقليدي للمعنى الثقافي، إلى كونها نسيجاً كلياً لثقافة شعب بأكمله، في جميع شرائحه وفئاته.
هذا الإصرار على الثوابت يحتاج إلى ترجمة عملية فاعلة ضمن خطوات عملية تتيح المجال لثقافة مصالحة وثقافة ثوابت، وإعادة رصد المشهد والسماح للمدخلات الساندة في رصّ الصف بأنْ تأخذ موقعيتها في اللوحة المستقبلية، لتقوية الخطاب المنضبط والحد من خطاب الترهل والانزلاق، وتسخير الطاقات الإبداعية لتساهم بقدراتها في إكمال الصورة الناقصة، فما وقع من دمار لثوابت الثقافة الفلسطينية لن ينهي حضور المشهد الثقافي الفلسطيني، ولنْ يكون النهاية كما أرادت المؤسسة الصهيونية ولا زالت تحيك من المؤامرات ما لم يخطر في ذهن شيطان، وتعيث فسادا لا وصف له. ونحن لا ننكر فداحة ماجرى ويجري على الساحة الثقافية الفلسطينية، ولن نقف مكتوفي الأيدي، ولن نصمّ آذاننا، ولن تخرس ألسنتنا، وسنعلن للاحتلال أنّنا مازلنا رغم كلّ الجراح النازفة أحرارا وأسيادا في أرضنا.. وسنبقى كذلك. ونضمّ أبجدياتنا إلى الحروف الحرّة للشاعر سالم جبران التي تصدح بديمومة الرواية الفلسطينية رغم المحن والصعاب فيقول:
يمكنكم أن تقلعوا الشّجر"
من جبل في قريتي
يعانق القمر
يمكنكم أن تحرثوا كلّ بيوت قريتي
فلا يظلّ، بعدها أثر
يمكنكم أن تأخذوا ربابتي وتحرقوها بعد أن تقطعوا الوتر
يمكنكم..
لكنّكم لن تخنقوا لحني
لأنّي عاشق الأرض مغنّي الرّيح والمطر".
فما يقدمه المثقف الفلسطيني من إبداعات ثقافية، فكراً، وشعراً، ورواية، ومسرحا، وسينما وفنّا تشكيليا، يساهم ليس فقط في تعميق وعي الفلسطينيين، بل وفي إيصال صوتهم إلى العالم، وتأكيد، أنّ هذا الشعب، مثل كل شعوب الأرض، يستحق الحياة ويستحق الحرية.
فلو لم يكن شعر محمود درويش عميقاً وعذباً وإنسانياً، لما وجد طريقه إلى قلوب الناس، ولو لم تكن كتابات إدوارد سعيد كشفاً معرفيا، لما أثارت كل هذا الجدل، ولو لم يكن الإبداع حاضراً وبقوة في "المتشائل" لاميل حبيبي و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني و"باب الشمس" لإلياس خوري، لما تحولت الأولى إلى عمل مسرحي والثانية والثالثة إلى أعمال سينمائية، ولو لم تكن كاريكاتيرات ناجي العلي ثاقبة ومعبرة لما حرّكت عقولنا ومشاعرنا، ولو لم تكن لوحات إسماعيل شمّوط ساحرة لما سحرت أبصارنا.
هذه النماذج المشرقة للمشهد الثقافي الفلسطيني بملامحه المختلفة قادت قوافل متتالية لا تقلّ إشراقا عنها، وهي مدعاة للفخر والاعتزاز، ولولا هذه الاستمراريّة لما وصل شعاع هؤلاء النجوم إلى العالمية؛ ليشار إليهم بالبنان، فالحركة الثقافية في فلسطين لا تأفل ولا تخبو نارها عن المشهد الثقافي العالمي بقراءاته المتنوّعة رغم تتابع النكبات والأزمات، فما دُمنا نتنفس ذرات الهواء المشبعة بدماء الشهداء الزكية المشتبكة فكرا وبندقية، والتي تمتزج بخلايانا وتمسي وقودا متجددا يغذي مسيرتنا ورسالتنا وبقاءنا على هذه الأرض التي نستحق من أجلها الحياة، سنزاحم لنعتلي صهوة المجد؛ لنصل إلى الصدارة ونروي حكايا المشهد الثقافي الفلسطيني لأحرار العالم قاب قوسين أو أدنى.

إقرأ المزيد لـ غدير حميدان ...

شارك برأيك

المشهد الثّقافي في فلسطين قابَ قوسين أو أدنى

أسعار العملات

الأربعاء 07 مايو 2025 11:16 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.62

شراء 3.61

دينار / شيكل

بيع 5.11

شراء 5.1

يورو / شيكل

بيع 4.11

شراء 4.1

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 1233)