أقلام وأراء
الأحد 16 أكتوبر 2022 11:18 صباحًا - بتوقيت القدس
حول السياسة والأخلاق
بقلم: سعيد زيداني
إذا وضعنا الأخلاق الخاصة جانبًا، يمكننا القول إن الأخلاق العامة تواكب وتحاصر السياسة في أربعة أنواع من القضايا، هي التالية:
1- الأهداف، والتي قد تكون نبيلة أو غير ذلك. فأهداف من يسعي إلى تحقيق المساواة في حقوق المواطنة غير أهداف من يسعى إلى التفوق العرقي. وأهداف من يسعى إلى تحقيق الديمقراطية الحقة غير أهداف من يسعى إلى تكريس نظام حكم الاستبداد من هذا النوع أو ذاك. وأهداف من يناضل من أجل العدالة الاجتماعية غير أهداف من يدافع عن التوزيع غير المنصف للثروة والفرص. وأهداف من يعمل على إنهاء الاحتلال والتحرر من الاستعمار غير أهداف من يعمل على استمراره أو/ وتعميقه. وهكذا. وباختصار، الأخلاق العامة تنفي وتجافي الأهداف الدنيئة أو الشريرة بينما تبارك وتعانق الأهداف الخيّرة أو النبيلة.
2- الوسائل، والتي بدورها قد تكون متسقة مع القيم الأخلاقية أو مجافية لها. فوسائل الإقناع غير وسائل الإكراه وغسل الدماغ وإساءة المعاملة. ووسائل تحقير الناس وإذلالهم والاعتداء على حقوقهم أو الانتقاص منها غير وسائل وقايتهم والدفاع عن كرامتهم وحقوقهم الفردية والجمعية. وقد علمتنا التجربة كيف نميز، مثلًا، بين وسائل الوحش النازي من طرف ووسائل كل من غاندي ومانديلا ولوثر كينج من الطرف الآخر. وباختصار، الأخلاق العامة تنفي وتجافي الوسائل الرديئة أو الشريرة بينما تبارك وتعانق الوسائل الخيرة أو النبيلة.
3- صفات الشخصية، تلك الصفات التي يتوجب أو يجدر التحلي بها (الفضائل) وتلك التي يتوجب أو يجدر التخلي عنها (الرذائل). فالصدق والنزاهة والإيثار والوفاء بالوعود ونظافة اليدين من بين تلك الفضائل، بينما الكذب والجشع والفساد المالي/ الإداري وخيانة الأمانة ونوايا السوء للآخرين من بين تلك الرذائل.
4- شرعية التمثيل، والتي تعني الحق القانوني/ الأخلاقي في الوصول إلى موقع الحكم/ السلطة وممارساتها، سواء كان ذلك على مستوى الحكم المحلي أو الحكم المركزي، على مستوى قيادة الحزب أو الحركة السياسية أو عضوية المجلس البلدي أو المجلس النيابي. فأنت لا تريد ممثلًا يفرض نفسه عليك، أو مفروضًا عليك من الخارج، حتى لو كان فاضلًا وكانت أهدافه ووسائله المعلنة خيّرة. ولا تريده، في المقابل، أن يتعدى نطاق التفويض حتى لو وصل إلى موقع التمثيل أو الحكم بالطريقة أو الطرق الشرعية.
مثاليًا، نريد ونطالب السياسي، خاصة إذا كان حاكمًا أو شريكًا في الحكم، أن يكون شرعيًا، وأن تكون أهدافه ووسائله نبيلة أو خيرة، وأن يتحلى بالفضائل الجميلة. ولكننا نريده ونطالبه أيضًا أن يكون مؤثرًا ومنجزا. بكلمات أخرى، نريده أن يكون أخلاقيًا ومؤثرًا أو منجزًا في الوقت ذاته. وهنا مكمن التعقيدات والمعضلات. فمن أجل الإنجاز والتأثير، قد يجد السياسي نفسه مضطرًا، خاصة إذا كان حاكمًا، إلى اللجوء إلى وسائل غير نبيلة أو إلى كبت الفضائل أو المساومة عليها أو التخلي عن الالتزام بها. وهناك من المنظرين والناس العاديين من يتسامح فيقول بإن الحكم لا يتم بدون "الأيدي القذرة".
وإذا كان هذا صحيحًا، فإن حجم ونوع ونطاق قذارة الأيدي يكتسب أهمية خاصةً. وعلى سبيل المثال، إذا كانت الرشوة أو خيانة الأمانة أو إساءة معاملة الناس وتعذيبهم مرفوضة بصورة قاطعة، فالكذب أو المكر في السياسة قد يكون مبررًا أو مباحًا أحيانًا. وإذا كان غياب الشرعية مرفوض بصورة قاطعة، فقد يكون التقريع أو التوبيخ الذي لا يرقى إلى كلام الكراهية مباحًا. وبصورة عامة، قد نقبل ونبرر للسياسي، خاصةً إذا كان حاكمًا أو ساعيًا للحكم أو شريكًا به، ما لا نقبله أو نبرره للشخص العادي حين يتعلق الأمر بدرجة أو مستوى الالتزام بالقيم الأخلاقية.
في الجزء المتبقي من هذا المقال القصير سوف أركز على كلام أو خطاب الكراهية في الحقل السياسي، وعلى المبررات لتجريمه قانونيًا. علمًا بأن قوانين بعض الدول، خاصةً الديمقراطية، تنزع إلى إباحته من منطلق الحرص علي حرية التعبير بأوسع معانيها.
السياسة وكلام الكراهية:
غني عن القول بإن كلام أو خطاب الكراهية غير جريمة أو جرائم الكراهية. وبينما ترفض وتحرم الأخلاق العامة كلًا منهما، فإن القوانين الوضعية للدول الديمقراطية المختلفة تجرم في الحالة الثانية دائمًا، ولكنها تمتنع عن التجريم في الحالة الأولى أحيانًا. وبصورة عامة، فإن مبررات الدول التي تمتنع عن تجريم كلام الكراهية تتمحور أساسًا حول مخاطر ومنزلقات ذات علاقة بتقييد حرية التعبير. أما أنا فأعد رأسي، حين تعد الرؤوس، من مناصري تجريم كلام الكراهية قانونيًا، إضافة إلى رفضه وتحريمه أخلاقيًا، خاصة إذا صدرعن قادة أحزاب وسياسيين بارزين ومؤثرين، وذلك لأسباب كالتالية:
ليس لكلام أو خطاب الكراهية (التخوين أو التشهير أو التكفير أو الترويع أو التحقير، إلخ) أي إسهام يذكر في "سوق التبادل الحر للأفكار"، وما قد ينتج عن ذلك من تقدم في الكشف عن الحقيقة أو في تبيان طريق أو طرق الخلاص في الدنيا أو الآخرة.
كلام أو خطاب الكراهية يسبب ضررًا للأفراد المستهدفين والجماعات المستهدفة وينذر بالعنف الجسدي تجاه هولاء الأفراد وتلك الجماعات. وكثيرًا ما تكون المسافة بين كلام الكراهية والعنف الجسدي قصيرة.
كلام أو خطاب الكراهية ينتهك شخصية وحقوق الفرد المستهدف والجماعة المستهدفة، ويعبد الطريق لتهميشهم وللتمييز ضدهم، وبالتالي، يعمل على إخضاع حقوقهم لمصالح وأهواء جماعات المحرضين والكارهين.
كلام أو خطاب الكراهية ينزع الشرعية عن طموحات وأفضليات الأفراد المستهدفين والجماعات المستهدفة، إضافة إلى محاولة إقصائهم وإسكات صوتهم.
كلام أو خطاب الكراهية مجاف للديمقراطية ألحقه وما تقوم عليه من حظر التمييز ومن المساواة في الحقوق والفرص.
وإذا قال قائل بأن تجريم كلام الكراهية ينطوي على الانتقاص من رقعة حرية التعبير، يكون الرد كالتالي: ليس للحق في حرية التعبير أولوية على حقوق الأفراد والجماعات في الكرامة، تمامًا مثلما ليس له أولوية على أمن الدولة أو المجتمع أو السلم الأهلي. وفي جميع الأحوال، فإن الحق في حرية التعبير ليس مطلقًا.
على ضوء ما ورد أعلاه، من الواضح أن كلام أو خطاب الكراهية، خاصةً الصادر منه عن سياسيين بارزين ومؤثرين من الأغلبية القومية أو الإثنية الحاكمة أو السائدة، يكتسب خطورة خاصة إذا كان الفرد المستهدف أو الجمهور المستهدف ينتمي إلى أقلية إثنية أو قومية مغايرة، ومميز ضدها أصلًا. وما التحريض الفظ الذي يمارسه بعض قادة أحزاب اليمين القومي والديني في إسرائيل تجاه فلسطينيي 48، خاصة في السنوات الأخيرة، إلا خير مثال على ذلك. مثل هذا التحريض الفظ يذكر هؤلاء الفلسطينيين بشرور كثيرة سابقة وينذر بشرور كثيرة لاحقة، قد لا تقتصر على الإقصاء والتهميش والإسكات والتمييز العنصري.
غني عن القول في هذا الصدد بإن مثل هذا التحريض الفظ، المرفوض والمحظور أخلاقيا، يجب أن يكون محظورًا ومجرمًا من الناحية القانونية أيضًا. كما ويتوجب حظر وتجريم كلام أو خطاب الكراهية قانونيًا إذا صدر عن قادة أحزاب وحركات سياسية بارزة ومؤثرة ينتمون إلى الأقلية الإثنية أو القومية، وكان المستهدف خصمًا سياسيًا أو اجتماعيًا من أبناء الأقلية ذاتها.
وأخيرًا، أعرف كما تعرفون أن السياسة هي حلبة لصراع القوى والمصالح والرؤى، تمامًا مثلما هي حلبة للصراع من أجل المراتب والمنازل (والتي لها في القلوب منازل). وأعرف كما تعرفون أيضًا كيف تختلط المشاعر والأفكار والقيم في مثل هذا النوع من الصراع. وأعرف كما تعرفون، ثالثًا، أن مثل هذا الصراع قد يكون حادًا وساخنًا.
ولأنه كذلك، يحرص العقلاء والفقهاء في الدول الديمقراطية المختلفة على حظر كلام الكراهية وتجريمه قانونيًا، خاصةً حين لا يكون الحظر والتحريم الأخلاقي رادعًا بما فيه الكفاية. ففي مركز سلبياته الكثيرة، كما ذكرت، خطر تقصير المسافة نحو جريمة أو جرائم الكراهية، من أبشع الجرائم. وفي هذا الصدد، أقول محذرًا: تنافسوا وتحاججوا وتقارعوا، أيها السياسيون، من هنا ومن هناك، حول الأهداف (نبيلها ورديئها) وحول الوسائل (الأخلاقية منها وغير الأخلاقية) وحول ما يتوجب التحلي به من فضائل والتخلي عنه من رذائل، وحول شرعية أو عدم شرعية الحاكم أو الممثل. ولكن إياكم وكلام الكراهية، سواء اتخذ شكل التخوين أو التكفير أو التحقير أو الترهيب أو تشويه السمعة أو ما شابه. فعواقب مثل هذا الكلام وخيمة على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمع ككل. وبسبب تلك العواقب الوخيمة فهو مرفوض ومحظور أخلاقيًا، ويجب، كما أعتقد، أن يكون مجرمًا من الناحية القانونية أيضًا.
وختامًا، أدرك جيدًا أن ما قلته حول تجريم كلام أو خطاب الكراهية في حلبة الصراع الحزبي/ السياسي ينطبق إلى حد كبير على حلبة الصراع الاجتماعي. فكلام الكراهية ضد النساء، مثلًا، أو ضد هذه القبيلة أو الطائفة أو الجماعة أو تلك، لا يقل خطورة عن كلام الكراهية في حلبة الصراع الحزبي/ السياسي. ولكن مدى انطباق ذلك حين يتعلق الأمر بمقاومة المحتل أو المستعمر أو الحاكم المستبد يحتاج إلى نقاش آخر.
عن "عرب ٤٨"
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة
بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي
التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً
بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة
أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي
بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
ويسألونك...؟
ابراهيم ملحم
الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية
منير الغول
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
الأكثر تعليقاً
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
واشنطن ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية بإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت
7 مجازر و120 شهيدًا بعدوان الاحتلال على غزة في 24 ساعة
الأكثر قراءة
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
دينار / شيكل
بيع 5.24
شراء 5.22
يورو / شيكل
بيع 3.85
شراء 3.83
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%52
%48
(مجموع المصوتين 92)
شارك برأيك
حول السياسة والأخلاق