أقلام وأراء

الإثنين 09 أكتوبر 2023 9:35 صباحًا - بتوقيت القدس

الدور "الملتبس" للجيش في البلدان العربية

من الغريب، أن وضع الجيوش في البلدان العربية، وربما "النامية" أيضا، وادوارها المتقلبة، لم تعد تجذب اهتمام الباحثين والمعنيين المفترضين، كما كان يحدث في ستينات وسبعينات القرن الماضي، رغم الأهمية الكبيرة التي ما زالت تتمتع بها تلك الجيوش، والادوار المقررة التي تؤديها، سواء بحضورها الثقيل احيانا، أو بغيابها الذي لا يقل ثقلا في احيان أخرى.


ربما أدى انهيار الاتحاد السوفياتي، وسيادة القطب الأمريكي الواحد، في تسعينات القرن الماضي.


 والتبدلات التي حدثت في العلاقات الدولية، بل وحتى في طبيعة الحراك السياسي في الدولة نفسها، والاعتقاد بأن الأمور باتت محسومة لاولئك الذين "انتهى" التاريخ لصالحهم، الى الاعتقاد أن لا مجال لأي تغيير جدي بالاتجاه الآخر، ولا حتى بأي اتجاه، وبالتالي فلا حاجة لأي اهتمام بأي عنصر من عناصر التغيير، بما فيها الجيش في هذه الحالة، ما دام أن التغيير نفسه أصبح "مستحيلا".


لكل جيش من جيوش المنطقة خصوصيته، فتركيبة الجيش الاجتماعية، وبنيته الفكرية والعقائدية، ودوره السياسي، وعلاقاته ببقية الفئات في مجتمعه، وبالنظام السياسي في دولته،تخضع لعوامل عديدة، لها علاقة أساسية بطبيعة الدولة نفسها، وبالكيفية "التاريخية" التي نشأ في حيثياتها، و "بالمدرسة" العسكرية والفكرية التي تربى فيها، والوضع الاستراتيجي والسياسي الذي وجد الجيش نفسه فيه.


لكن تلك "الخصوصية" التي يتصف بها كل جيش من جيوش المنطقة، لا ينفي أن تلك الجيوش تتشارك في كثير من الأمور، تماما كما تتشارك دولها، فتلك الدول خضعت بشكل او بآخر للاستعمار، وحصلت أيضا بشكل او بآخر على شكل أو آخر من "الاستقلال"، وخضعت جيوشها لتغيرات "طبقية" وعقائدية فيها الكثير من التشابه، وحققت تلك الجيوش القليل من الانتصارات المشتركة، وعانت من كثير من الهزائم المشتركة، وفي احيان فهمت أمنها القومي بشكل مشترك تقريبا، ثم تخلت عن ذلك الفهم بشكل مشترك "تقريبا" أيضا.


مهمة هذا المقال، هي الوقوف عند بعض المتغيرات الأساسية التي طرأت على وضع الجيش في المنطقة، وانعكاسات تلك المتغيرات على وضع الدولة "الوطنية"، والفرص التي قد يتيحها الصراع العالمي الجاري الآن، من أجل خلق نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب.


في التعريف بالجيش
عادة ما وصف الجيش في المنطقة، خاصة في بدايات تشكله، بأنه جيش الوطن وجيش الشعب، فهو المؤسسة الوطنية الشاملة لكل شرائح المجتمع وطبقاته. وهو وإن كانت الفئة الأكبر منه، تتكون من الجنود المنحدرين من الأوساط الريفية الأكثر فقرا، فإن كبار ضباطه وقياداته العليا تشكلت أساسا من أبناء العشائر والاقطاعيين والارستقراطيين.


لكن الفئة التي اعتبرت النخبة، ولعبت الدور الأبرز في تاريخ جيوش المنطقة، هي التي تشكلت من الضباط المتوسطين والصغار، والتي انحدرت أساسا من اوساط الفئات الوسطى في المدينة والريف، وسميت في الادبيات الاشتراكية ب "الانتلجنسيا العسكرية".


حظيت جيوش المنطقة، التي نشأت على الأغلب مع نشوء الدولة، أو قبيل ذلك، باحترام كبير. وكذلك كانت مهنة العسكرة، التي ربما ورثت جزءا من احترامها من "الهيبة" التي حظيت بها الجيوش المستعمرة في فترة الاحتلال.


لكن الأساس في الموقف الإيجابي من الجيش -والحديث أساسا عن البلدان العربية- جاء من كونه، على الأقل في فترة التأسيس، المشغل الأكبر، بل شبه الوحيد، للشباب. وهو كونه المؤسسة الوطنية الشاملة، شكل رمزا لوحدة الشعب، وحاملا لأفكار السيادة والاستقلال، والحامي للدولة و "للأمة"، وهو المؤسسة الأكثر عصرية والأكثر تنظيما في المجتمع.


تفاوتت صفات الجيوش تلك من بلد لآخر في المنطقة، وذلك تبعا للظروف التي تأسست بها، وشكل الدولة و "وظيفتها"، وفيما يتعلق بجيوش المشرق العربي خاصة، دورها في الحروب مع اسرائيل. في هذا السياق نستطيع التمييز بين ثلاثة أنواع من الجيوش، تلك التي تأسست قبل المستعمرين قبل الاستقلال السياسي، وتلك التي ظهرت في خضم حركة التحرير، والثالثة التي ظهرت بعد تأسيس الدولة "الوطنية".


الجيش والدولة
وفرت تجربة السلطة الفلسطينية، نموذجا حيا لدراسة كيفية نشوء الدولة في منطقتنا، وكذلك لنشوء المؤسسات المرتبطة بها، ومنها القوات المسلحة. فولادة السلطة أمام أعيننا، وكأننا في مختبر حقيقي، اراحنا من بحث ومؤرخين واركيولوجيين ووثائق واراشيف، لتقمص الواقع الذي نشأت فيه الدولة ومؤسساتها، وقدمت لجيلنا حالة "سريرية" نستطيع، ربما باستثناءات قليلة تعميمها على بقية دول المنطقة.


تحدد طبيعة نشأة الدولة ماهية جيشها. والدولة العربية المعاصرة نشأت في علاقة "ملتبسة" مع الاستعمار، ونشأ معها جيشها كذلك، أو على الأقل، تأثر بها جذريا في الحالات التي كان فيها موجودا بشكل او بآخر.


لقد حال الاستعمار دون نشوء دولة "طبيعية" في المنطقة، أي دولة نشأت نتيجة "عقد اجتماعي" بين الحاكم والمحكوم كما تنشأ الدول، بل كان العقد (التنسيق) "الأمني" أساسا، وكذلك السياسي والاقتصادي بين الحاكم "المرشح" والدولة المستعمرة، هو المرتكز الأساس الذي قامت عليه الدولة ونظامها. ان من يتعامل مع الدولة في منطقتنا وكأنها نتاج "عقد" جان جاك روسو، و ليس "عقد" سايكس-بيكو،هو بالتأكيد مشتبه.


يشكل الجيش كما هو معلوم أحد عناصر الدولة "العميقة"، إن لم يكن أهمها. وهو مرتبط بها ارتباطا وثيقا. فحل الجيش يعني عمليا "حل" الدولة، ومثال عراق بريمر ماثل أمامنا. ويكون الجيش على الأغلب على شاكلة دولته، أو الدولة على شاكلة جيشها (لا فرق)، فالدولة القوية جيشها قوي، والتابعة جيشها تابع، والمستهدفة جيشها مستهدف، والفاقدة لمشروعيتها السياسية والاخلاقية جيشها كذلك، وتلك التي تعيش مرحلة ما قبل الدولة، مثلما هي عليه معظم دولنا(وبنسب متفاوتة)، جيشها يعيش مرحلة ما قبل الجيش، وعندما تنضج الدولة ينضج جيشها.


الجيش.. أدوار مختلفة
بعد النكبة الفلسطينية، وفي ظل النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام الثنائي القطبية، الذي شكل فيه الاتحاد السوفياتي نصيرا لحركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، ظهرت تيارات وطنية وقومية في اوساط الانتلجنتسيا العسكرية (الضباط الصغار والمتوسطين)، قاد بعضها بلدانها ضد النفوذ الاستعماري، رغم أنها في احيان كثيرة ذهبت بإتجاه معاد للجماهير وللعمل السياسي والمدني، حيث أدى ذلك الى انتكاسات لاحقة.


تطورت الأمور فيما بعد، بسبب ضعف الدولة، أو -بشكل أدق- بسبب عدم نجاح ما قبل الدولة في التحول الى دولة، وفي ظل قوى مدنية ضعيفة ومقموعة، والخلل الذي جرى في النظام العالمي لصالح الامبريالية الغربية، تحول الجيش -والحديث عن منطقتنا- ، من جيش للدولة الى جيش للنظام، ثم سيطر الجيش على النظام ليصبح نظاما للجيش.


بعد سيطرة امريكا على المشهد، وترسخ نظام القطب الواحد بالقضاء على كل رموز النظام العالمي الثنائي إلا ما ندر، جرت تحولات كبيرة على دول المنطقة ومؤسساتها، وكان الجيش هو الأبرز والأكثر وضوحا في تلك التغيرات.


كان من الطبيعي في ظل النظام الثنائي القطبية، أن يكون النظام مع امريكا والمعارضة مع الاتحاد السوفياتي أو العكس، لكن في ظل الوضع الجديد، لم تعد امريكا تكتفي بولاء النظام بل والمعارضة ايضا. فعملت على إخضاع الدولة بكل مؤسساتها، سلطة ومعارضة، نظاما ومجتمعا مدنيا، جيشا واحزابا، علمانيين واسلاميين، "يسارا" ويمينا.


"قبلت" الولايات المتحدة أن يكون هناك سلطة ومعارضة، وأن تكون هناك أحزاب سياسة ومجتمع مدني ومدارس "فكرية"، لكنها عملت على أن تكون العلاقة معها خارج، بل فوق، أي صراع، وإن كان لا بد من تنافس بين هؤلاء، فليكن على التقرب منها وكسب ودها. هذا تطلب من الولايات المتحدة، أن لا تكتفي بالصلة مع النظام ورموزه، بل مع الجميع؛ أنظمة وشعوبا واحزابا ومؤسسات وافرادا، كما تطلب ذلك العمل على تغيير القيم والمعتقدات، وكل ما ينتج ذلك من تعليم وإعلام و "دين" .... .


ومن أهم المؤسسات التي حرصت الولايات المتحدة على "التواصل" معها، والتأثير بها، كان الجيش، الذي عملت على ربطه بها مباشرة، ماليا وتنظيميا وعقائديا وتسليحا وتحالفات، بشكل يضمن أن لا يتصرف بعد ذلك كمؤسسة وطنية، وبدل أن يكون الجيش رمزا للسيادة والاستقلال، وعاملا على حفظهما، أصبح عنوانا وأداة للتخلي عنهما.


ماليا واقتصاديا، خصصت الولايات المتحدة للجيش وقادته "مساعدات" مالية مباشرة، لا تمر بالضرورة ضمن موازنة الدولة ومؤسساتها المالية. كما شجعت على انخراط المؤسسة العسكرية في "البزنس"، والأعمال التجارية "المدنية"، فتحول الجيش من فئة اجتماعية تضم ممثلين عن كافة شرائح المجتمع وطبقاته، تصرف عليها الدولة من مواردها المختلفة، الى طبقة اجتماعية مكتملة الأركان، لا تمول نفسها فقط إنما تراكم الربح، وتنافس باقي طبقات المجتمع على امتلاك "وسائل الإنتاج" والسيطرة على السوق.
عقائديا شكل ذلك أساسا لتغيير عقيدة الجيش ووظيفته - هنا كان التطبيع ضروريا بتحويله الدولة ومؤسساتها وفي مقدمتها الجيش، من دور الى وظيفة- ، فمن هدف اساسي تمثل بالدفاع عن الوطن والشعب، أصبح الجيش بلا هدف، أو بأي هدف "يكلف به" بإستثناء ذلك الذي ينبغي أن يكون. ومن حيث العقيدة العسكرية، التي تلخصت عند معظم جيوش المنطقة، في أن اسرائيل تمثل العدو الأساس، إن لم يكن الوحيد للأمة، تغير ذلك عند الكثيرين، لتصبح الصديق و"الحليف" وكذلك جيشها.


في ظل التطبيع مع اسرائيل فقدت الجيوش في المنطقة أي مبرر استراتيجي أو أخلاقي لوجودها، حيث لا حروب " بعد اليوم"، كما قال السادات بعد حرب 1973، اللهم إلا إذا كانت حروبا أهلية.


الخلاصة هنا، وبصورة عامة حيث تختلف جيوش المنطقة باختلاف درجة تطور دولها ووضعها الاستراتيجي، فإنه على ما يبدو، لا أمل في أن تقوم هذه الجيوش باستثمار الفرصة التي توفرها الحالة التاريخية التي يمر بها العالم الآن، كما تفعل بعض الجيوش الأفريقية.... هذا يصعب الوضع على الشعوب ونخبها التي تسعى الى التغيير، ويطالبها بجهد أكبر لإيجاد أدوات أخرى لإنجاز ذلك.

دلالات

شارك برأيك

الدور "الملتبس" للجيش في البلدان العربية

نابلس - فلسطين 🇵🇸

نبيل علقم قبل 6 شهر

مقال فيه تحليل الوضع الذي عاشته الامة وجيوشها خصوصا بعد رحيل عبدالناصر واستثمار اخر جيش مقاتل في القتال من اجل اسقاط مصر واخراجها من عالمها العربي الى استبداد فرعوني دون ايجابيات فراعنة مصر

المزيد في أقلام وأراء

الشرق الأوسط ..رقعة شطرنج تحركها الولايات المتحدة كما تشاء

حديث القدس

نار داعش وجنة إسرائيل

حمدي فراج

"اسرائيل" وهزالة الرد على الرد

راسم عبيدات

الرفض الأميركي لفلسطين

حمادة فراعنة

إسرائيل بين حرب غزة والرد على إيران.. أولوية أم تكتيك مدروس؟

سماح خليفة

حماية هويتنا العربية الأميركية

جيمس زغبي

كيف تبدو “الحرب ضد غزة” بعيون اسرائيليين بارزين؟

د. أسعد عبد الرحمن

مساومة أميركية اسرائيلية على دماء الفلسطينيين

حديث القدس

أمريكا تريدها وهماً تفاوضياً وإسرائيل تسعى لمنعها واقامة الدولة الواحدة اليهودية العنصرية

مروان أميل طوباسي

من يردع عصابات المستوطنين ومن يحمي شعبنا؟

بهاء رحال

في معاني الليلة الإيرانية

أحمد جميل عزم

"اسرائيل" ومأزق الرد وعدم الرد

راسم عبيدات

دعوات الصقور لضرب إيران الآن مخطئة

مارك شامبيون

جرائم ضد الإنسانية

حديث القدس

تحذيرات بايدن والفعالية المنقوصة--

حسن ابو طالب

ازدواجية ليست مفاجئة... ومستمرة---

بكر عويضة

رغم نفاق الاعلام الغربي .. هزمت إسرائيل...

فتحي كليب

أسباب تغيير الموقف الأميركي ودوافعه

حمادة فراعنة

حول مقولة (المسرحية) واستدخال الهزيمة

وسام رفيدي

في الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل أول الرصاص وأول الحجارة

عباس زكي

أسعار العملات

الخميس 18 أبريل 2024 10:59 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.78

شراء 3.77

دينار / شيكل

بيع 5.34

شراء 5.32

يورو / شيكل

بيع 4.06

شراء 4.0

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%72

%23

%5

(مجموع المصوتين 129)

القدس حالة الطقس